ذهب إلى سواكن، وكل همه الدعوة إلى الله فكان يقضي وقته متنقلاً بين المساجد يقرأ على الناس، صحيح البخاري ويشرح أحاديثه، ويشرح لهم أيضاً قسم العبادات من الموطأ للإمام مالك.
وفي بحثه عن الصالحين، تعرف على الشيخ عبد الرحيم السواكني، وكان من أجل مشايخ الطرق الصوفية في السودان، وله أتباع كثيرون منتشرون في كل أرجاء السودان، وكان يسكن بجزيرة في النيل بالقرب من سواكن.
ويضرب الإمام لنا مثلاً نادراً في التفاني عن النفس في الدعوة إلى الله، فقد ظل يتقرب من هذا الرجل، حتى صيره خادمه الذاتي، يناوله وضوءه، ويقضي له حاجاته الخاصة، وهو في كل ذلك لا يظهر أي شئ من مكنون ما خصه الله به، حتى وثق به الشيخ عبد الرحيم، وثوقاً بليغاً.
ولما آن الأوان لكشف الغطاء وانبلاج الحق، وكان ذلك في ليلة المولد النبوي، وكان الشيخ عبد الرحيم يقيم حفلاً ضخماً بهذه المناسبة، يحضره المريدون بل وجميع الطرق الصوفية من شتى أنحاء السودان، ويجلس هو على كرسي عال خاص به، وله ثياب مزركشة بكل أصناف الزينة، لا يلبسها إلا في تلك المناسبة.
فتقدم منه الإمام أبو العزائم، وطلب منه أن يلقي كلمة في تلك المناسبة، فوافق على الفور لاعزازه له، وتقديره له، لحسن أدبه في خدمته، وما أن تكلم الإمام أبو العزائم وتغنى ببعض مواجيده، حتى فوجئ جميع الحاضرين بالشيخ عبد الرحيم يخلع ملابسه، ويصرخ بأعلى صوته ويقول: أنت الذي أبحث عنك عمري كله، وتوضئني ولا أعرف ...!! يا ويح عبد الرحيم !!، وينوح على نفسه !!
ثم رزقه الله الصدق والنورانية أثر خروجه عن جاهه وكبريائه وإخلاصه في متابعة الإمام أبي العزائم، حتى أنه أصابه حياء عظيم، جعله يجلس دائماً خارج المكان الذي يجلس فيه الإمام أبو العزائم، وإذا واجهه ينكس رأسه في الأرض، وعندما سئل عن ذلك قال: لا أستطيع أن أثبت بصري في وجه مولانا
وبلغ به الحب لأبي العزائم حتى قال في ذلك:
وإذا الجبال تزحزت عن أرضها
عن حبِّنا في الله لا نتحول
وحى السماء منزل ببيوتنا
وحقائق الآيات عنا تنقل
وإذا تجلى بالجمال حبيبنا
في الأوليا فلنا الطراز الأول
قل للحسود اخسأ فإنك جاهل
بجنابنا يتوسل المتوسل
التبشير بالإسلام
وقد آثر الامام سواكن على سواها من بلاد السودان، لقربها من المنطقة الجنوبية التي تنتشر فيها الوثنية، فكان أول من عمل على نشر الإسلام في هذه المنطقة في العصر الحديث، ليثبت للعالم كله أن الإسلام لم ينتشر في كل أنحاء القارة الأفريقية إلا بجهود المخلصين من أتباع الطرق الصوفية، وليكذب دعوى الذين يتهمون الصوفية بالسلبية والانعزالية، والفضل ما شهدت به الأعداء... فهذا أرنولد يقول في كتابه الدعوة إلى الإسلام:
(وفي غرب أفريقيا كانت هناك طائفتان قائمتان بصفة خاصة على نشر الإسلام: هما: القادرية والتيجانية) ... ويتحدث أيضاً عن أثر الطريقة الإدريسية والميرغانية فيقول عند حديثه عن الحركات التي عملت على نشر الإسلام في إفريقيا: (ومن أسبق تلك الحركات، حركة يعزى قيامها إلى السيد أحمد بن إدريس، وقد أرسل قبل موته عام 1835 ميلادية أحد أتباعه ويدعى محمد عثمان الأميرغني في رحلة إلى إفريقيا لنشر تعاليم الإسلام) ...
وهكذا السنوسية وغيرها من الطرق الصوفية الأخرى التي عملت على نشر الإسلام ابتغاء رضوان الله
وقد قام الامام ابو العزائم لب دعوته في هذا القسم الجنوبي على أمرين:
- أولهما: احتياج هذه المنطقة إلى الملح، حيث أنه لا يتوافر بها.
- ثانياً: رغبة أهلها في تعدد الزوجات، وهذا لا يتنافى مع الإسلام وإن كان يتعارض مع الأديان الأخرى.
فكلف أتباعه المخلصين بجلب الملح والذهاب به إلى الجنوب على هيئة تجَّار وفي أثناء ذلك، يتبادلون الحديث مع السكان، ويعرضون عليهم بلطف ولين مبادئ الإسلام السمحة، ووعدهم على ذلك غنى الدنيا وسعادة الآخرة.
وقد كان لما قام به الامام وأتباعه، أثر كبير في دخول سكان الجنوب الإسلام، حتى ذعر الإنجليز من هذا الأمر، خاصة أن المبشرين الذين جاءوا بهم ومعهم كل الامكانيات المادية، عجزوا أمام فقراء آل العزائم الصادقين، فما كان منهم إلا أن قاموا بنقله إلى وادي حلفا.
في وادي حلفا
وفي وادي حلفا، وجد الإمام الناس هناك مشتغلين بالملاهي والخمر، ويقضون جل وقتهم في هذه الأشياء، ولا ينتبهون من شدة غيهم، وفساد أحوالهم، لشأن الشريعة وأحكامها فبدأ يدعوهم إلى الله ،بطريقة حيرت النهى، ضرب بها المثل الأعظم للداعي الصادق في كيفية جذب العصاة والنافرين إلى الله
حتى أنه كان يدخل الحانات والخمارات ليدعو أهلها إلى التوبة والإقبال على الله، لأنه لا يتيسر له أن يجالس أمثال هؤلاء إلا في المواطن والمجالس التي يرتعون فيها، ومن بين الوقائع الكثيرة له في هذا المجال، نذكر أنفسنا بهذه الواقعة:
فقد دخل الحانة ذات يوم، واتجه إلى منضدة يجلس عليها كامل أفندي مدير عام السكة الحديد في السودان، في ذلك الوقت، وكان يتردد يومياً على الحانة ويقضي معظم وقته فيها !!!
وعندما أخذته المفاجأة بجلوس الإمام معه على المنضدة، طلب الخمار، وطلب منه أن يحضر للشيخ قدحاً من القهوة، وإذا به يفاجأ بالشيخ يقول له:
لا، ولكن أحضر لي زجاجة خمر وطبق من الكبد الطري !!
فتعجبا معاً، وأمام إصرار الشيخ، أحضر ما طلب، فوضع الامام جرعة من الخمر على الكبد الطري، فإذا به يتفحم ويتحول إلى اللون الأسود، فتعجب كامل أفندي من هذا المنظر الذي لم يخطر بباله قط، فقال له:
هذا ما يفعله الخمر بكبدك وأنت لا تشعر !!
وواصل الحديث شارحاً له مفاسد الخمر ومضارها، حتى أعلن توبته، وذهب به إلى المسجد وصار من كبار أحبابه ومريديه.
وهكذا ظل الامام يتردد على الحانات حتى عرفه أصحابها، فبمجرد دخوله، يقدمون له قدح القهوة ويتجاذب الحديث مع الرواد، فيصلح في كل يوم نفراً منهم على الله ، ويوجههم إلى طاعته وحسن العمل بشريعته.
وفي أثناء ذلك، كان يتردد إلى أماكن السماع واللهو أيضاً ومعه نفر من أخوانه، يغنون الأناشيد الدينية والمواجيد الروحانية، التي تعلمهم أحكام الإسلام وآدابه، وتولى الامام شرحها، حتى هام بها أهل البلد جميعاً، فصاروا يتغنون بها في غدوهم ورواحهم ومنازلهم وأماكن أعمالهم، ثم أقبل بهم بعد ذلك على أحكام الشريعة الإسلامية وعلومها شرحاً وتفصيلاً، حتى شرح الله صدورهم للإقبال على أركان الإسلام والعمل بها.
العودة إلى سواكن
وفي تلك الأثناء قام شيوخ القبائل في سواكن بشكاوي متعددة للإدارة الحكومية مطالبين بعودته ، فما كان من الإدارة إلا أن وافقت على مضض، فرجع إلى سواكن.
وقد كان ظهر في ذلك الوقت دعوة الماسونية، وهي حركة يهودية تمهد لقيام دولة يهودية في فلسطين، فأخذ يتحدث عن أهداف هذه الحركة ومبادئها، ونوايها الخفية التي لا تظهرها في الاجتماعات العلنية، وذلك أثناء شرحه وتفسيره للآيات القرآنية التي تتحدث عن بني إسرائيل.
وقد حدث أنه أشار ذات مرة إلى مرجع ظهر سراً في الولايات المتحدة الأمريكية عام (1906) ميلادية، وهو: دائرة المعارف الماسونية ونقل منها ما يلي نصه : (أن يكون كل محفل ماسوني رمزاً لهيكل، وأن يكون كل أستاذ على كرسيه ممثلاً لملك اليهود، وأن يكون كل ماسوني تجسيداً للعامل اليهودي)
فتعجب حاكم سواكن السير جرانفيل، وطالبه بالمرجع الذي أشار إليه، فأشار الإمام بيده إلى صدره قائلاً: هذا هو المرجع !
فتعجب الحاضرون، وزاد عجبهم عندما قال لهم:
أنه ليس لديه نسخة من دائرة المعارف، وأن منزله تحت أمرهم ليتأكدوا من ذلك وقال: أن المؤمن يرى بنور الله لأن الله هو المؤمن، ثم قال للحاكم الإنجليزي: أهذا المطبوع موجود أم لا؟ فأجاب الحاكم بالإيجاب. فقال: ففيم إذاً الإستجواب؟ .. إنني أتكلم معكم بما تقولون عن أنفسكم ...... يتبع ان شاء الله[l]