الشيخ المربِّي
نشأ الإمام أبو العزائم رضى الله عنه وأرضاه وقد اندرست أحوال الصوفية الصادقين، وظهرت أحوال البطالين والمنتفعين ممن جعلوا الطريق وسيلة للحصول على شهواتهم وأغراضهم، ولم يبق إلا نذر قليل حفظوا روح التصوف وأحواله ومواجيده وأخلاقه، أما الأغلبية العظمى منهم فقد جعلوه رسوماً وزياً وأكلاً وشرباً، ونسوا الغرض الذي من أجله أسس، وهو السلوك إلى ملك الملوك
فحاول أن يجدد هذه الأحوال التي اندرست، ويبين هذه المكارم التي توارت، ويوضح هذه الأخلاق التي أميتت، وقد طبق هذه المناهج والاتجاهات على ثلاث مراحل عملاً بحديث سيدنا رسول الله الذي يقول: { ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } وقوله { ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ } وسنوضح هذه المراحل على قدر ضعفنا وتقصيرنا، لا على قدر كماله رضى الله عنه وأرضاه.
يرى الامام أن الشيخ المربي لكي يؤثر فيمن حوله لابد أن يأخذ نفسه بعزائم الأمور، ولا ينزل إلى الرخص، وإن كان يفتي بها لغيره.
وأن عليه أن يعمل أولاً بما يعتقد أنه الصواب، حتى إذا قال وقع القول منه موقع الإجابة وأحدث الانفعال السلوكي المطلوب في نفوس السامعين.
وصفات الشيخ عنده كثيرة نثرها في كتبه الصوفية ككتاب "مذكرة المرشدين والمسترشدين" و "شراب الأرواح" وكتاب "معارج المقربين" وكتاب "الطهور المدار على قلوب الأبرار" وغيرها، ونبرز أبرز هذه الصفات ملمحين إلى تحلِّيه بها كما يلي:
التأدب بآداب الشريعة
أخذ نفسه بالمجاهدات الفادحة، والعزائم الماضية، حتى يكون أسوة حسنة لمن حوله، فما كان يضيع نفساً من أنفاسه في غير طاعة الله ، إما بذكر أو شكر أو درس أو تفقد لأحوال أخوانه أو لأحوال المسلمين أجمعين، أو عبادة قلبية خاصة بينه وبين الله ، حتى أنه ، كان لا ينام إلا إذا جلست إبنته بجواره أو أحد أبنائه أومحبيه يتلون القرآن على مسامعه، ويأمرهم ألا يكفوا عن ذلك حتى إذا استغرق في النوم، ومن العجب أن بعضهم كان يلحن أحياناً في قراءته، فينتبه من نومه ويصحح له القراءة، بل إنه لشدة تعلقه بذكر الله ، كان إذا نام يسمع لتردد أنفاسه نغمة شجية، يسمعها من حوله تقول: الله ... الله.
فإذا كان وقت السحر، استيقظ من نومه وتوضأ وصلى ما شاء حتى يطلع الفجر، فينادي على أهله ومريديه ويقول: الصلاة الصلاة يا غراس الجنة، ثم يصلي بهم، وبعد انتهاء الصلاة يقول للمتكاسلين الذين فاتتهم الجماعة الأولى، موقظاً وموبخاً: الصلاة الصلاة يا غراس النار.
ثم يجلس في مصلاه يقرأ مع أخوانه ورد ختم صلاة الصبح، الذي جمعه من الأحاديث الواردة عن سيدنا رسول الله، وأدعية الأنبياء والمرسلين التي تحققت وأجيبت في كتاب الله، وبعدها يقرأون صيغ الصلوات التي أمده بها سيدنا رسول الله، ثم يشرح لهم ما تيسر من آيات كتاب الله، حتى إذا بزغت الشمس وارتفعت قدر رمح أو يزيد، تناول معهم طعام الفطور وأذن للجميع بالتوجه إلى العمل.
وهو في جميع أحواله لا يخرج عن الشريعة طرفة عين، بل كل حركة وسكنة من حركاته وسكناته كانت مضبوطة بأحكام الشرع الشريف، حتى أنه في أواخر أيامه، وكان قد مرض وشلَّت رجلاه، فأرادوا أن يدخلوه دورة المياه، ولم ينتبهوا إذ أدخلوه من الجهة اليمنى فانتفض، انتفاضة شديدة وقال وهو يتألم: خالفت رسول الله العفو يا سيدي يا رسول الله.
وقد حضر لديه جماعة من العلماء، فأراد أن يبين لهم الأدب العالي الذي ربى عليه أبنائه ومريديه، فأحضر رجلاً أمياً، وقال له ماذا تصنع إذا وجدت أن أبا العزائم يخالف رسول الله ؟ فقال التلميذ الذي تأدب بآداب شيخه: لو خالف أبو العزائم رسول الله لقرعناه بنعالنا، فأحتضنه الامام والتزمه وقال له: أنت ولدي حقاً، ويقول لهم آمراً باتباع السنة : { حافظ على السنة ولو بشرت بالجنة }، ويقول أيضاً:
لسنته فاخضع وكن متأدباً
وحاذر فحصن الشرع باب السلامة
على الجمر قف أن أوقفتك تواضعاً
يكن لك برداً بل سلاماً برحمة
بل أنه يجعل الحكم على المريد، متوقفاً على مدى استجابته لأوامر الشريعة المطهرة، فيقول مبيناً علامة المريد الصادق من الدَّعي المندس في صفوف الصادقين:
من فارق الشرع الشريف فليس من
آل العزائم فافهمن برهاني
ولا عجب في ذلك، حيث أنه، كان يحدث عن جده الصالح أبى العزائم ماضي هذه الواقعة التي دارت بينه وبين ولد شيخه أبي الحسن الشاذلي فقال:
(( كان للشيخ ولد اسمه علي، فلقيته بالإسكندرية سكراناً بالخمر، فأتيت به إلى الدار، وضربته ضرباً وجيعاً حتى تعلق بأمه، فجذبته حتى خرج بخيوط رأسها في يده، فصاحت وبكت فدخل عليها الشيخ فقال لها: ما يبكيك؟ فأخبرته بالقصة ولم تخبره بسكره، فتغير الشيخ لذلك، فلما دخل الزاوية قال لي: يا ماضي لما فعلت كذا وكذا؟ قلت لأني وجدته سكراناً بالخمر، والله لو تعلق بك لجلدته الحد، فقال لي هكذا هو، وتغير وجهه، ودخل الخلوة ساعة، واستدعاني فدخلت عليه فوجدته فرحاً مستبشراً، فقال لي دخلت إلى هذا المكان وهممت أن أدعو على ولدي، فقيل لي: ياعلي مالك ولولي! دعه حتى ينفذ ما قدرته عليه!، فلم تمض إلا مدة يسيرة، حتى خرج في سياحة، وظهر في أرض المغرب وظهرت ولايته ))
ولهذا كان أول ما يأتي إليه المريد يوجهه إلى تعلم الشريعة المطهرة والعمل بها ويقول: طريقنا هذا أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة، ويحدد مآخذ طريقته في أكثر من موضع في كتبه ويقول:
(( طريق آل العزائم هو ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأساسه مقام الإحسان بعد مقام الإسلام والإيمان، والسالك في هذا الطريق يجب أن يكون محصلاً ما لابد له منه من العقيدة الحقة والعلم بأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق كما هي سنة المرشدين، فكذلك السير في كل المساجد والزوايا المعدة لتربية الطريق، فإن خديم الفقراء يبتدئ بتعليم الأحكام الشرعية والآداب النبوية، وتعليم المعاملات والأخلاق بجميع أنواعها )) ، ويقول محذراً لمن يخالف هذا المنهج: (( وكل خديم في بلد خالف منهج المرشد أفسد على الفقراء أحوالهم )) ، ويحدد الأسس التي بنى عليها طريقته فيقول: (( مآخذ هذه الطريقة:
- كتاب الله تعالى بعد علم محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه عملاً بالمحكم وإيماناً بالمتشابه بقدر الاستطاعة وتركاً للمنهي عنه جملة واحدة إلا لضرورة شرعية.
- أقوال رسول الله بعد العلم بصحة السند فيما يؤدي إلى علم اليقين والأخذ بأقواله بدون ملاحظة إلى السند فيما يؤدي إلى فضيلة أو مكرمة.
- وأعماله التي تثبت من طرقها الصحيحة وأحواله المبينة في كتب السيرة الصحيحة التي يستنير بها المرشد عند مقتضيات ذلك.
- وهدي الخلفاء الراشدين وأئمة الصحابة المأخوذ من تراجمهم أجمعين والأخذ بالعزائم في كل ذلك.
- وأعمال السلف الصالح وأئمة المسلمين ومواجيدهم الصادرة عن عين اليقين وصدق التمكين وصفاء الضمير والإخلاص في المعاملة لرب العالمين.
- ثم طمأنينة القلب بعد العلم بكل ذلك حال الدخول في العمل أو القول أو الحال لأن كل ذلك خالص لوجه الله بحيث أن السالك في هذه الطريقة إذا لم يستبن له الأمر في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أو في هدي السلف الصالح يلزم أن يتوقف عنه حتى يطمئن قلبه أنه خير وأنه خالص لله تعالى))
الزُّهد
ويؤكد هنا أن من يقوم لدعوة الخلق إلى الله لابد أن يكون مستغنياً بالخالق عن الخلق، ومتأسياً في أحواله بالسادة الأنبياء حيث يحكي عنهم الله قولهم لأممهم: ( يا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [51هود] ويقول معرفاً بالشيخ المربي: شيخك من يعطيك لا من يأخذ منك. وقال لمن سألوه عن العلامة التي يعرفون بها صدق الداعي إلى الله في دعوته: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ) [21يس].
وضرب بنفسه أروع الأمثال في ذلك، فحينما استقر في القاهرة وقد فصله الإنجليز من عمله، وداره غاصة بالمريدين والأحباب الذين يحتاجون إلى نفقات كبيرة وكثيرة، حتى أن أبرز محبيه وهو محمد محمود سليمان باشا، وكان يسمى في عصره ملك الصعيد لثرائه الواسع، سجَّل حجة ووثقها في الشهر العقاري بمائة فدان باسم الإمام أبي العزائم . وذهب إليه وعرضها عليه وقال: يا سيدي هذا شئ يسير تستعينون به على أمور الدعوة، وحاجات الفقراء، فغضب أبو العزائم غضباً شديداً، حتى أن الشرر كاد أن يتطاير من عينيه، وقال له في حدة: من الذي قال لك أن أبا العزائم يحب الدنيا؟ انظر، وأشار إلى خلفه فنظر فرأى عجباً، رأى أكواماً من الذهب لا حصر لها، فعلم أن تلك عناية الله بأحباب الله وأصفيائه، حتى أنه لشدة زهده ، سجل البيت الذي كان يقطن فيه باسم (آل العزائم) في كل أقطار الأرض، حتى يتأس بسيدنا رسول الله ، ويخرج من الدنيا ولم يصب منها شيئاً، هذا مع أن الضرورات الكثيرة كانت تنتابه المرة تلو المرة، لكنه كان بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه.
وهكذا يجدد أبو العزائم أحوال السلف الصالح في زهدهم في الدنيا وإقبالهم على الله، ويعرفهم بأن الزهد لا يتم إلا بعد وجود الشئ في ذات اليد، فتكون الدنيا في يد الإنسان ولكنها خارجة من قلبه، بمعنى أنه لا يفرح بها عند الوجد ولا يحزن عليها عند الفقد، أما الزهد في غير الوجد أي زهد الإنسان لأنه لا يملك شيئاً فهذا ليس بزهد العارفين، وإنما زهد العوام من الناس، لأنه إذا حصل عليها ربما يتغير حاله.
الورع
وهو عنده للسالكين في ترك الشبهات، وللواصلين في ترك كثير من المباحات، وللمتمكنين في ترك ما سوى الله بالكلية.
فقد كان له رضى الله عنه فيه الباع الأعظم والقدر الأجلُّ، وليس أدلَّ على ذلك من هذه الحادثة الفريدة من نوعها: فقد دعاه صالح سليم باشا في بور سعيد لتناول الغذاء عنده هو وإخوانه، فما كان منه، بعد محاولاته الاعتذار واصرار الباشا ورجاؤه وتوسلاته على التلبية إلا أن أمر ابنه المبارك السيد أحمد ماضي أن يأخذ معه رغيفين من الخبز وقطعة من الجبن، ولما استقروا على المائدة، وقد غصَّت بأصناف الأطعمة الشهية، وأذن الباشا للحاضرين بتناول الطعام بعد استئذانه في ذلك، طلب من السيد أحمد إخراج ما معه من الخبز والجبن ووضعه أمامه، فأسرع الباشا إليه هلعاً وسأله لماذا يأكل هذا الطعام مع أن المائدة حافلة، وفي إمكانه ووسعه أن يأتي بما يريد استجلاباً لرضاء الشيخ ، فقال له بحكمته المعهودة: (إن هذا الطعام أمرني به الطبيب) - ويقصد الطبيب الأعظم .
ولم يكتف بالتخلق بهذا الخلق الكريم والحال العظيم في نفسه وإنما كان يدرب ويمرن أولاده ومحبيه على هذا الورع ويباعد بينهم وبين الشبهات والمحرمات قدر ما يستطيع، فهذا رجل فلاح من أتباعه، وكان يسكن في منطقة بولاق، وكانت قبل عمرانها الحالي منطقة زراعية، وكان أهلها يبيعون اللبن كل صباح لسكان القاهرة، فشكا له الرجل أن زوجته تخرج مع جاراتها باللبن، فيرجعن مسرعات وتتأخر هي حتى ضحوة النهار، مما جعله يشك في أمرها، ويتهمها في سلوكها.
وعرض الأمر على الشيخ ليجلي له الحقيقة، فقال له الشيخ ، ضع غداً قدراً من الماء على اللبن من غير أن تعلمها، فنظر الرجل إليه بدهشة ولكنه رضى الله عنه قال له: افعل ما أمرتك به، فعلم أن هذا لحكمة عالية يعلمها الشيخ، وكانت دهشته أعظم عندما نفذ أمر الشيخ، ووجد زوجته ترجع مع صويحباتها، فأسرع إلى الشيخ وعليه إمارات الدهشة، فقرأ الامام ما يدور بخلده وقال له: يا بني إن جاراتك تغش اللبن بالماء، فيقيِّض الله لهن مالاً حراماً ثمناً له، والمال الحرام كثير هذه الأيام، ولذا يرجعن بسرعة، أما زوجتك فلأنها تراعي حق الله وتتأدب بآداب سيدنا رسول الله فإنها تتعب حتى يهئ الله لها مالاً حلالاً ثمناً للبنها، وذكره بالقول المأثور: { إذا غضب الله على عبد رزقه من حرام، فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه }.
والورع هو مقام الصديقين عنده لأنه أفضل من كل العبادات على الإطلاق سر قوله : { إِتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ }
البصيرة النافذة
كان يرى أن أهم صفة يجب أن تتوفر في الشيخ المربي هي البصيرة النافذة، التي تنفذ بشعاعها النوراني وراء الحواجز والمسافات، لتسهل للسالك قطع العقبات والمفازات والوصول إلى أعلى الدرجات والمقامات، ويستشف ذلك من قول الله لحبيبه r فى محكم التنزيل ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) [108يوسف].
وهذا هو نهج الصوفيين الحقيقيين قديماً وحديثاً، فهذا سيدنا الجنيد عندما تلقى الإذن من شيخه السري بالإرشاد وجلس في المسجد الجامع وتجمع حوله الخلائق، اندس في وسطهم نصراني، وقد تزيا بزي رجل عربي، وبادره قبل أن يتكلم بالسؤال قائلاً: ما معنى حديث: { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } ؟ فنظر إليه ودقق النظر وأطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعها بعد برهة وقال له: معناه أنَّه قد آن الآن أوان إسلامك يا نصراني؛ فانطق بالشهادتين، وفي ذلك يقول الامام:
إذا رمت أن ترأى بعين البصيرة
فسلم لنا الأحوال في كل حضرة
ومن راحنا الصافي تناول مدامة
يناولها المختار من غير راحة
فقد خصني طه بفيض وداده
وأعلى بمحض الفضل شأني ورتبتي
أنا الباب فرد الوقت من غير ريبة
أنا ساقي الندمان راح الشهادة
ويقول أيضاً رضى الله عنه :
أنا الخبير فسلني عنه أنبيك
وسلمن لي إلى العليا أرقيك
واخلع سواه وكن صبابة مغرم
وبعه نفسك والأموال يعطيك
وكان الامام المثل الأعلى في عصره في الشفافية النورانية والبصيرة الروحانية، بل أن كل حركاته وسكناته تشف عن هذه البصيرة الوضاءة، وخاصة أمام المعارضين والمعاندين، فعندما أوعز الإنجليز لعلماء الأزهر أن يتهموه في عقيدته زوراً وبهتاناً، ليتسنى لهم محاكمته بعد الصاق التهم المزعومة به، تريث عقلاؤهم وآثروا أن يرسلوا عشرة منهم لاختباره، وحضروا الأسئلة التي تكشف لهم حقيقة أمره، وتخيَّروا لذلك الأمر ليلة الإسراء والمعراج، حتى ينكشف أمره حسب زعمهم لمريديه وأحبابه، وكان يوضع له كرسي خاص في وسط السرادق الذي يقام لأجل إحياء هذه المناسبة، فطلب الامام من أبنائه المشرفين على الحفل أن يجهزوا خمسة كراسي عن يمينه وخمسة عن يساره ولا يدعون أحداً يجلس عليها إلا بإذن منه شخصياً
وعندما بدأ الاحتفال، وسط دهشة الحاضرين من هذه الكراسي الفارغة من الجالسين، إذا بالعشرة علماء يحضرون، فأمر باجلاسهم على الكراسي المعدة لهم، وبعد ترحيبه بهم، أخذ يجاذبهم أطراف الحديث قائلاً:
عندما كنت بالسودان، جاء عشرة من العلماء كهيئتكم ليمتحنوني فسألني الأول الذي عن يميني وأشار إلى الذي عن يمينه، عن كذا؟ - وعين السؤال الذي حضره وجهزه هذا الشخص - ثم ذكر الثاني بسؤاله وأجاب عليه، وهكذا حتى أجاب العشرة عن أسئلتهم التي جهزوها بدون أن يطلع عليها أو يتفوهوا بها ... بصيرة من الله ونورانية، وشفافية وإمداداً من سيدنا رسول الله
بل أنه كان يفحم المستشرقين حين يستشف ببصيرته النافذة أغراضهم الخبيثة التي تكمن في أسئلتهم، فهذا أحدهم يتوجه إليه بالسؤال قائلاً: الحي أفضل أم الميت؟ فأجابه على الفور بدون تريث مريم أفضل أم إبليس؟ فبهت الذي كفر .. وتعجب الحاضرون لوجومه, فكشف لهم حقيقة الأمر وقال: إن هذا يريد أن أقول له: الحي! فيصل عن طريق الجدال إلى أن عيسى وهو في نظرنا حيٌّ أفضل من سيدنا محمد، فأجبته بأن إبليس حيٌّ ومريم قد ماتت.
أما عن بصيرته في تربية مريديه وأحبابه فحدث عنها ولا حرج، والأمر فيها أكثر من أن تحويه هذه الصفحات، وحسبنا منها هذا المثال الذي في تسبب في توبة أخص كتابه كامل أفندي وإسلام زوجته الفرنسية، والتي سمت نفسها فاطمة.
فقد كانت أم كامل من الصالحات القانتات، اللاتي تهذبن وتربين على يد الإمام أبي العزائم، وكانت تذكر لابنها في رسائلها إليه كثيراً من النوادر والأحاديث التي تسمعها من الإمام أبي العزائم، فظن ابنها لعدم معرفته بالإمام أنه رجل عادي، وأن هناك علاقة بينه وبين أمه، فصمم وهو في دراسته للحقوق بفرنسا أن يقتل الإمام أبا العزائم بعد عودته إلى مصر، وعند مجيئه أظهر لأمه اعجابه بأبي العزائم، وطلب منها أن تصحبه هو وزوجته ليسلما عليه، وأخفى المسدس في ثيابه، وجهزه للضرب فوراً، وعندما رآه الإمام قال له على البديهة: مرحباً يا كامل أفندي، جئت تقتل أبا العزائم: وتخفي المسدس في ثيابك؟ اخرج مسدسك فإن الله حائل بينك وبين ذلك.
فذعر الرجل وأخرج مسدسه، وسلمه له، وترجم لزوجته الفرنسية ما دار فارتمت على الأرض، وأغمى عليها، وفي تلك اللحظات، رأت أن القيامة قد قامت، والملائكة يأخذونها ليقذفونها في جهنم، وهي تستجير فلا تجد من يدفع عنها، وبينما هي على باب النار، إذا بها تجد الإمام أبا العزائم يقول لهم: خلوا عنها، فأمسكت به ثم أفاقت من سباتها وهي تصيح يا أبا العزائم .. فأسلمت وحسن إسلامها وصارت تكتب باباً ثابتاً في مجلة المدينة المنورة الأسبوعية تحت عنوان ((أوربية أسلمت)).
والإمام يحدد مهمة الشيخ في تصفية قلوب المريدين، وتهذيب نفوسهم وصفاء أحوالهم، فإذا كان هو لم يتمكن من تلك الأحوال ولم يستطع أن يهذب نفسه فكيف يعطي ذلك لغيره؟ وفاقد الشئ لا يعطيه.
وهذه البصيرة هي سلاح العارفين عند ورود الشبهات وقائدهم للوصول إلى مراد الله في تأويل الآيات القرآنية، ومعرفة ما يقصده سيدنا رسول الله في الأحاديث النبوية، وهي التي تحدد الأمراض والحجب والقواطع التي تمنع السالكين وتحجبهم عن الوصول إلى درجات الروحانيين، ويقول في ذلك: (( وإنما إمام المتقين من وصل إلى جناب القدس ثم ورَّثه الله علوم الرسالة والنبوة، فأقام داعياً للحق بالحق دالاً على الحق بالحق، مجدداً للسنة، مبيناً لسيرة السلف الصالح، هذا هو الإمام المقتدى به، وإذا أظهره الله في عصر من العصور وجب على كل طالب أن يقتدى به أو بمن اقتدى به أو بمن اقتدى بمن اقتدى به، فإن هؤلاء في الجنة ما داموا محافظين على تلك الأسرار )) ..
وينعي على كثير من مدعي الصوفية في عصره فيقول: (( هذا وبعض أهل الطريق، إذا مات المرشد أو مات الشيخ المأذون بالطريق، يسلمون لأحد أولاده أو أقاربه، وهذا أمر حسن، لو أن من سلموا له يكون على شئ من العلم والعمل والحال، واجتهد في تحصيل ما به كمال نفسه ونفع غيره، وحافظ على الاقتداء بالمرشد محافظة حقيقية في القول والعمل والحال.
أما إذا سلموا لابن المرشد، أو لأحد أقاربه، وكان صبياً لم يبلغ الحلم، أو كبيراً على غير استقامة، بعيداً عن معرفة الطريق وأهله، فإنهم بذلك يكونون عرضوا من اقتدوا به للهلاك وأهلكوا أنفسهم، لأنهم بذلك يجعلوه يغتر بنفسه، ويتكبر على العلم، ويحتقر العلماء، ولا يزيده الإقبال عليه، إلا غروراً وبعداً عن الله، وكأنهم بذلك أساءوا إلى مرشدهم فإنه جملهم بالعلم والعمل والحال، وهم لم يحسنوا إليه في أولاده وأهله، وكان الواجب عليهم، أن يجتهدوا في تربية ابن الأستاذ أو من يكون من أهله، تربية حقيقية، علماً وتهذيباً وعملاً حتى يكون لسان صدق لوالده، ووارثاً لعلومه وأحواله، وإني لأعجب من رجل لا يرضى أن يجعل الحصرم من العنب زبيباً ويرضى أن يجعل الطفل الصغير المؤهل للتربية والتهذيب والتعليم، مرشداً عظيماً، وظن أنه يحسن صنعاً )) ..
ويأتي الامام بالقول الفصل في هذا الأمر الذي طال فيه الجدل والكلام بين أبناء الطرق الصوفية وغيرهم في شأن من يقوم بتربية المريدين بعد شيخهم فيقول:
((أن الله حكمٌ في كتابه العزيز في ميراث الأرض خاصاً لمخصوصين، وحكم في ميراث السماء أنه فضله يؤتيه لمن يشاء، فحكم في خير الدنيا بما هو واضح، وحكم في ميراث الأنبياء والمرسلين بالفضل العظيم بأنه لمن يشاء ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[21الحديد].))
عجبتُ منك و منـّـي يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتـّـى ظننتُ أنـّك أنـّــي