قال الشاعر:
كَوَّنَ اللهُ في الحَشَايَا جَنِيناً ******* بِعِنايَاتِ رَبِّهِ مَشْـــمُولاً
فعظاماً وقد كساها لحمـاً ******** وعُرُوقاً فكان حَمْلاً ثقيـلاً
تصنعُ الأمُّ ما تشاءُ ولكنْ ******** عليها محافظـــاً ووكيلاً
فإذا صارَ جَوْفُهَا منه خلواً ******* صار بالحُبِّ قلبُهَا مشغولاً
بيتُهُ حجْــرُهَا وللهِ بيتٌ ********** لا يريدُ الرضيعُ مِنْهُ بديلاً
وله بين أمِّـه وأبيـــهِ منزلٌ ******* فيه يُكْرِمَـانِ النَّزِيلا
**************
مقدمــــة
الحمد لله الذي أنزل القرآن تبيانًا لكل شئ، وهدىً ورحمةً للمؤمنين،
فَمَا من شئ يهُمُّ المسلم في دنياه أو أخراه، في نفسه أو في ولده، أو في بيته أو في مجتمعه،
إلا والقرآن الكريم وضَّحه وبيَّنه بأجلى بيان، وأصحِّ تبيان.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبدِ الله، علم الهداية الربَّانية،
وسرّ العناية الإلهية، ومشكاة الأنوار القدسية، وعلى آله أهل الشريعة الإسلامية،
وأصحابه المتجملين بتلك الأحوال القرآنية، وكل من اهتدى بهديهم، أو تجمل بأحوالهم،
أو سار على دربهم إلى يوم الدين ... آمين. (وبعد)
قال صلى الله عليه وسلم:
( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ).
أي أن كل مسلم يجب أن يفكر في أمور المسلمين، ومشاكل المؤمنين،
بقَدْرِ ما يفكر به في مشاكل نفسه أو أكثر، خاصة وأن هذه المشاكل قد كثرت،
والبلاء بها قد عمّ، بل إن الأمر قد انتهى إلى أزمة مستحكمة في الأخلاق والمعاملات،
لا يجد كثيرٌ من الناس لها مخرجًا، وأصبح الأمر كما يقول أحمد شوقي:
وإذا أُصِيبَ النَّاسُ في أَخْلاقِهِم ****** فَأَقِـمْ عَلَيْهِمْ مَأتَماً وَعَوِيلا
ويعكف الخبراء والعلماء الآن على بحث الطرق السديدة للنهوض بمجتمعنا- اقتصاديًا،
وعلميًا، وثقافياً، وأخلاقيًا، وغيرها - ولكنهم لا يهتدون لذلك،
لأنهم يبحثون عن الحل في تجارب الآخرين!!!
فينظرون مثلاً إلى تجربة روسيا فيقومون بتنفيذها في مجتمعنا، مع علمهم - علم اليقين -
أن لكل مجتمع طباعه وعاداته، وأخلاق أهله التي ينفرد بها عن سواه.
فإذا لم تفلح هذه التجربة، نظروا إلى تجربة أمريكا فيطبقونها، فإذا ثبت فشلها،
اتجهوا إلى اليابان أو إلى ألمانيا،
وهم في كل ذلك يريدون أن يطبقوا علينا مبادئ القوم ومُثُلَهُم
لعلنا نصير يوماً إلى مثل حالهم في الدنيا - من العلوِّ في الأرض، والزخرف والزينة -
ونسوا أن أساس الإصلاح في أي مجتمع من المجتمعات هو الفرد نفسه!!
وهذا لا تقومه القوانين، ولا تصلحه اللوائج ولا التوصيات والتعليمات،
وإلا فأى قانون يستطيع أن يمنع الغش نهائياً؟!!
وأي قانون يمنع الغِيبَةَ والنميمة، والمكر والخداع، واللؤم والخيانة؟!!
***********************
لا يوجد إلاَّ قانونٌ واحد .. هو قانون السماء، الذي أنزله الله في دستوره -القرآن الكريم -
ووضع يده عليه النَّبِيُّ صلوات الله وسلامه عليه، وأسَّس عليه دولة المؤمنين في زمانه وإلى يوم الدين،
وإلى هذا الإشارة بقوله صلوات الله وسلامه عليه:
(إنما يُصلح أخرَ هذه الأمة بِمَا صَلُحَ به أولها).
وأولها لم يستمدوا مدنيتهم وحضارتهم من الفرس ولا من الروم،
وإنما أخذوها من نور كتاب الله عزَّ وجلَّ.
وأساس إصلاح الأفراد - والذي يتوقف عليه إصلاح المجتمعات -
هو إصلاح النفوس والضمائر، لأن النفوس إذا صلحت، والضمائر إذا طهرت،
لا يحتاج الناس إلى من يمنعهم من الغشِّ، لأن الرقيب في صدورهم،
والمشرف عليهم والمحاسب لهم قلوبهم وأفئدتهم.
فلا يرهبون من ذي سلطان، لأن سلطان الضمير أبلغ في التوبيخ والتقريع -
إذا كانت النفس الأمارة بالسوء هي المهيمنة على تصرفات - وسلوك الإنسان،
والنفس الأمَّارة هي المهيمنة على أهل النفاق وكل من لا إيمان له.
فكل من لا ينعقد في قلبه الإيمان كما جاء به النبي العدنان صلى الله عليه وسلم -
وإن تظاهر يوماً بين الناس بالأمانة والصدق والمروءة -
فهو داخل في قول الله عزَّ وجلّ:
(إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
[53- يوسف]
وإنما يكون تظاهرهم بالأخلاق الكريمة لخداع غيرهم، حتى يقعوا تحت سطوتهم،
وبعد ذلك ينفذون فيهم مخططاتهم الإبليسية من الغدر والخداع واللؤم والخسة.
والذي يرحمه الله بالإيمان، ويهذب نفسه بالقرآن، هو الذي يصلحه الله،
فينبه في داخله النفس اللوَّامة التي أقسم بها الله في قوله:
(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة)
[3- القيامة]
فتلومه وتوبخه عندما يعصى الله، أو يفعل ما نهى عنه الله،
أو يخالف في صغير أو كبير هَدْىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
***********************