هناك آفات ظهرت في هذا العصر، كانت في العصور السابقة بسيطة وقليلة، ولكن في هذا العصر استفحل أمرها، وانتشر داؤها، وقلَّ الحكماء والأطباء الذين يعالجون أدواءها، فظهر ما نراه الآن من فرقة وشقاق، وخلاف وإحن في الصدور، وأحقاد وأحساد في القلوب، حتى بين الأخوة في الدِّين، وبين الأخوة في الوطن، وبين الأخوة الأشقاء من بين أب وأم.
قلت: (آفات) لأنها أمراض معنوية وليست أمراض جسدية، فليس العيب في نقص الخيرات، أو في قلة الأموال، فإن كل ذلك قد يكفي العالم كله، والجم الغفير إذا باركه إله الأرض والسماء عزَّ وجلَّ، والبركة لا تكون إلا بعد القضاء على الأمراض المعنوية: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ [96الأعراف].
هذه الآفات كثيرة ومتنوعة سنشير إلى بعضها الليلة، وإن سمح الوقت وأحيانا الله إن شاء الله سنكمل ذلك ، بحيث نضع بفضل الله، وبإمداد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: روشتة لأمراض العصر التي أصابت الأفراد والمجتمعات، والسبيل إلى إصلاحها، والرجوع إلى الألفة والمودة، والمحبة والتواد، والتعاون والتناصح والتَّبَاذل الذي كان عليه، ولا يزال عليه المؤمنون والفضلاء من العالم في كلِّ وقت وحين.
(ننصح من يريد المزيد بقراءة كتبنا: إصلاح الأفراد والمجتمعات في الإسلام (ط2)، تربية القرآن لجيل الإيمان (ط2)، علاج الرزاق لعلل الأرزاق (ط3)، كونوا قرآنا يمشى بين الناس، كيف تدعو الله على بصيرة).
آفة العصبية
أول هذه الأدواء داء العصبية!! إن كانت عصبية للرأي، أو عصبية لدِين، أو عصبية لمذهب، أو عصبية لشيخ، أو عصبية لوطن، أو عصبية لنسب، أو عصبية لجماعة. فقد قضى الإسلام على العصبية في شتَّى صورها وكافة أشكالها، وقال الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين في شأنها: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [103آل عمران]، وقال الله تعالى في شأن الخلق أجمعين: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [92الأنبياء]. وقال صلى الله عليه وسلم - فيما كان حادثاً في عصره وزمانه من العصبيات العائلية والقَبَلية وغيرها: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ} (سنن أبي داود والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه) كيف يتم ذلك؟ إذا عرفنا أن مردَّنا إلى الله، الأرض أرض الله يورثها من يشاء من عباده - ليتمتع بها فترة من الزمن - ثم تُردُّ إلى وارث الأرض والسماوات ليوزعها بأنصبة ومقادير معلومات، أوردها في صحيح الآيات، وزادها تفسيراً في بيان سيد السادات صلى الله عليه وسلم، ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[49الشورى].
فَلِمَ العصبية لمكان إن كان في بنيان، أو في أرض أو في صحراء، أو في أي أمر من أمور الدنيا؟!! والإنسان مسافر ولن ينال بعد سفره إلا ما قدمت يداه من عمل صالح أعانه وقوَّاه عليه مولاه، ورزقه بالتوفيق ليؤديه بالكيفية التي يقبله به الله، فحتى التوفيق في العمل والقيام به فهو من فضل الله، وبتوفيق الله جلَّ في علاه.
وإن كانت العصبية لنسب أو لحسب أو لسلالة فقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك للبشر جميعاً: {قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ} (سنن الترمذي وأبي داود ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه)
كل السلالات البشرية، وكل القبائل والعائلات الأرضية، ترجع في النهاية إلى آدم وحواء، فكلنا كما قال الإمام عليّ رضي الله عنه وأرضاه وكرَّم الله وجهه:
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكِفَّاءُ أَبُوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوَّاءُ
كلنا في النهاية ننتمي لآدم، وقد كان الحكماء من العرب يقولون لمن تأخذهم نعرة العصبية بالآباء والأجداد:
لَيْسَ الفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي إِنَّمَا الفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أَنا ذَا
وقال الله عزَّ وجلَّ ناعياً على العرب قبل الإسلام - عندما كانوا يجلسون في مناسك الحج في مِنَى ليتفاخرون بالآباء والأجداد: ﴿فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [200البقرة]. أنتم ذاهبون لتذكروا الله ولا تذكروا الآباء والأجداد.
فقضى صلى الله عليه وسلم على العصبية عملياً وقال لأصحابه في هذا المقام: {أدخل الإسلام بلالاً في نسبي وأخرج الكفر أبا لهب من نسبي}، وقال في رجل من فارس: {سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ} (المستدرك على الصحيحين)، يعني من أهل خصوصية النبيِّ المصطفي مِمَّن ذكرهم الله في قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [33الأحزاب]، أدخل معهم سلمان مع أن سلمان كان من بلاد فارس.
فألغى العصبية بكل صورها وأشكالها للسلالات البشرية، والعائلات والآباء والأجداد، وأصبح المؤمن يفتخر بتقوى الله، والأدب مع الله، والأدب مع خلق الله، والأدب مع كتاب الله، والعمل الصالح الذي أعانه عليه مولاه، وقواه بفضله عليه، وجعله من خيار عباد الله بتوفيق الله له كما قال في كتابه: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [88هود].
وألغى العصبية سواء للمذاهب الفقهية، أو للطرق الصوفية، أو للمشايخ الذين يتلقى على أيديهم المرءُ العلم، ويتدرب على أيديهم على العمل، لأن المشايخ جميعاً يدعون إلى منهج رسول الله، ولو دعا واحدٌ منهم لنفسه لحاربناه، لأننا نتبعه لأنه يدعو إلى منهج رسول الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم - مع رفعة قدره، وعظيم مقداره - لا يدعو إلى نفسه، ولكنه يدعو إلى حضرة الله جلَّ في علاه، فلو دعا إلى نفسه ما اتبعناه. إذاً الكٌلُّ يدعوا إلى الله، كل السابقين والمعاصرين واللاحقين يدعون إلى شريعة رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، إذاً كُلُّهم على منهج واحد يقول فيه الله: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [153الأنعام].
وافْقَه البيان في القرآن، ما السُّبلُ التي نهى عنها الله؟ التي تقطع الطريق على عباد الله، وتوقفهم على نفرٍ من الخلق، ولا توجههم إلى حضرة الله جلَّ في علاه؟ فكل من يدعو الخلق إلى الله فهذا هو المنهج القويم، والصراط المستقيم. أما من يدعو الخلق إلى نفسه - كأن يدعوهم إلى تعظيمه وتوقيره، وتلقي الأوامر منه كأنها دستور من السماء، ولا يعرضونها على الشريعة الغراء!! - هذا من أهل السبل!! نَهانا الله عزَّ وجلَّ عن إتباعه، أو المشي على منواله، أو حتى التفكر في سبيله لأننا جميعاً نتجه إلى دين واحد يقول فيه الله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [19آل عمران].
وعليه شارع واحد هو المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، والكل يشير إلى حضرته، وهو يشير إلى حضرة الله، ووجهة الجميع في البدء وفي الختام: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾ [115البقرة].
ما الخلافات بين المذاهب الفقهية إلاَّ إلهامات إلهيَّة في تأويل النصوص القرآنية، وتوجيه الأحاديث النبوية لسعة الديانة الإسلامية. من الأئمة من يأخذ بظاهر الآية وهذا صواب، ومنهم من يأخذ بتأويل في القرآن - والقرآن يُفسر بعضه بعضاً - وهو على صواب، هذا على صواب وهذا على صواب، وذلك لوسعة دين الله عزَّ وجلَّ. مثال على ذلك: يقول الله تعالى في نواقض الوضوء: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ [6المائدة].
أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه بظاهر الآية فقال: اللمس هو اللمس المباشر، فلو لمس الرجل المرأة بدون حائل انتقض وضوءه، فإذا أراد أن يلمس المرأة لا بد أن يضع على يده حائل يحول بينه وبين يدها، وهذا رأى صواب. والإمام أبو حنيفة رضي الله عنه قال: لو نظرنا إلى قول الله عن السيدة مريم البتول عليها السلام ورضي الله عنها: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [20مريم]، تقصد بالمس الجماع، إذاً اللمس هنا الذي ينقض الوضوء هو الجماع، لكن اللمس المباشر لا ينقض الوضوء.
هذا أوَّل من القرآن، وهذا أخذ بظاهر القرآن، وذلك ليتبين لنا سعة شرع الرحمن عزَّ وجلَّ الذي أنزله لنا على النبي العدنان صلى الله عليه وسلم. ليس بينهما خلاف ولا اختلاف، لكن سعة في الفكر، ونباهة في الذكر، وإلهام من الله ليعلم الجميع أن شرعَ الله شرعٌ واسع، لا يحيط به رجل واحد من عباد الله إلا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علَّمه الله، وقال له الله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [113النساء].
وقس على ذلك باقي الأمثلة. لا أريد أن أقف في هذا الباب لأن الموضوع يطول. فليس بينهم خلاف، ولذلك لم يظهر على مدى التاريخ عصبيات بين أصحاب المذاهب كما ظهر في عصرنا الآن، لأنهم يعلمون أنهم:
وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ رَشْفاً مِنْ البَحْرِ أوْ غَرْفاً مِنْ الدِّيَمِ
لو جاء أيُّ رجل - مهما كان شأنه بين المسلمين - بشيءٍ يخالف سنَّة سيِّد الأولين والآخرين لقرعناه بالنعال!! حتى أصغر مسلم لا يرضى بذلك، لكنه يأتي بفهم لطيف في كتاب الله، أو في توجيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهموا ذلك فلم يختلفوا، ولم يتفرقوا ولم يتحزبوا كما ظهر الآن.
منبع مناهج الطرق
وكذا مشايخ الطرق على اختلاف أنواعهم وأشكالهم، الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ واحد، لا يغيب عن سلوكه إلا جاحد، ولا يَصُدُّ عنه إلا كافر أو معاند، لكن كيف أسير فيه؟ ما المنهج الذي إذا اتبعته أنال رضا الله وأحظى بحسن المتابعة لحبيب الله ومصطفاه؟ وليس فينا ولا فيمن قبلنا ولا فيمن بعدنا رجل يستطيع أن يأتي بكل ما أمرنا به الله، فظهر الرجال الذين مشوا على منهج حبيب الله، واختاروا باباً مشوا فيه، وعندما صدقوا في السير في هذا الباب فتح عليهم الوهَّاب، ولاحتْ عليهم الفتوحات الإلهية.
رأينا لهم إلهامات من باب: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [65الكهف]، ورأينا لهم وعليهم إشراقات من باب: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ [22الأنعام]. ورأينا لهم إجابة دعاء وتحقيق رجاء من الله دليلاً على أنهم استجابوا لله فاستجاب لهم الله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [186البقرة]. ورأينا فيهم أدب النبوة، وسمت القرآن، وسيما الصالحين التي وسم بها الله عزَّ وجلَّ أحبابه المقربين من أُمة النبي العدنان.
فكل رجل منهم على باب من أبواب الجنة، والجنة لها أبواب كثيرة، ولا يستطيع الإنسان أن يدخل منها جميعاً إلا بتوفيق الله ورعاية الله جلَّ في علاه.
وأنا بعدما اشتد شوقي إلى ربي، ورأيت حنيناً في نفسي إلى العمل بما أمر ربي، أريد أن أمشي على هذا الهُدى، فأنظر فأجد رجلاً وصل إلى ما وصل إليه من الفتح الإلهي بقيام الليل، فأذهب إليه لأتعلم منه الكيفية السديدة، والطريقة الرشيدة التي أقوم بها الليل، فيفتح الله عزَّ وجلَّ به علىِّ. وينظر آخر إلى رجل فتح الله عزَّ وجلَّ عليه بكثرة الإنفاق والصدقات فيذهب إليه ليتدرب على يديه على الكيفية التي يتصدق بها، وينال القبول بسببها، ويُفتح عليه من أجلها. أحتاج إلى خبير في هذا الدرب الذي أريد أن أسلكه إلى العلىِّ الكبير، وكلُّ خبير له باب، ولا يستطيع أحد أن يدخل من كل الأبواب إلا الحبيب الذي منحه الله عزَّ وجلَّ الحكمة وفصل الخطاب، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ظهر الصالحون، منهم من اشتهر بذكر الله، ومنهم من اشتهر بتلاوة كتاب الله، ومنهم من اشتهر بالعلوم، ومنهم من اشتهر بخدمة الفقراء والمساكين، ومنهم من اشتهر بالصُلح بين المتخاصمين من المسلمين، ومنهم من اشتهر بالسعي على حوائج الأرامل والفقراء والضعفاء والمساكين. كل واحد منهم دخل من باب، ومن هنا افترقوا، لم يكن افتراقهم عن اختلاف، وإنما لإظهار غِنى شرع الله، وكثرة الأبواب التي توصل المؤمن إلى رضاء الله، وإلى فضل الله، وإلى إكرام الله عزَّ وجلَّ.
الخطأ في هذا المقام للذي يدَّعي أن الطريق الذي سلكه هو وحده الطريق السديد، وغيره على الخطأ، وهذا لا ينبغي أن يكون بين المسلمين، فإنَّهم كلُّهم على الصواب. لكن هذا منهج ارتضيته وأحببته، وليس معنى ذلك أن أُقبح مناهج غيري لأنها كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلها توصل إلى مراضي الله، لكني أميل إلى ذلك، فلا أُقبح غيري إذا سار على غير ذلك، فمن أراد أن يُلزم غيره بالمنهج الذي سار عليه فقد حجَّر واسع فضل الله، وأغلق أمام الخلق الأبواب التي فتحها الله وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن دع الخلق للخالق، سِرْ كما شئت واترك غيرك يسير كما يشاء. واعلم أن الله عزَّ وجلَّ واسع عليم، ومن وسعته عزَّ وجلَّ ليس فضله قاصراً على أحد، ولا قاصراً على عدد، ولا قاصراً على زمان، ولا قاصراً على مكان، بل فضل الله عزَّ وجلَّ يُحيط بكل زمان ومكان، ويُحيط بالملائكة والإنس والجان، وغيرها من مخلوقات الرحمن، منذ خلق الدنيا إلى أن يرث الله عزَّ وجلَّ الأرض ومن عليها.
لو فهم أتباع العارفين ومُحبِّي الصالحين هذه الحقيقة هل يختلفون؟!! شيخي أفضل، أو شيخك أقل!! وهل هناك من سبيل لمعرفة الأفضلية عند ربِّ البريَّة بعد قول الله عزَّ وجلَّ في آيته القرآنية: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [13الحجرات].
ومَنْ يعرف التَّقوى؟ !! هل معك أشعة في باطنك، ونورٌ في قلبك، تستطيع أن تكشف به تقوى الأتقياء لتُميز بينهم؟! هذا أمر لله جلَّ في علاه، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم موصداً هذا الباب أمام أصحابه ومن بعدهم: {التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا}، وأشار إلى صدره (رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه). وقال للصِديق الأعظم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: { يَا أَبَا بَكْرٍ إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يُسَارِعُونَ فِي الدُّنْيَا فَعَلَيْكَ بِالآْخِرَةِ وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُل حَجَرٍ وَمَدَرٍ يَذْكُرْكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ أَحَدَاً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ صَغِيرَ المُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّهِ كَبِيرٌ } (رواه الديلمي عن علىٍّ رضي الله عنه).
فأنت لا تعرف من الأقرب إلى الله، أو الأشد خشية لحضرة الله، وقد قال سيدي جعفر الصادق رضي الله عنه: {إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث، أخفى رضاه في طاعاته، فلا تُحقرن من الطاعات شيئاً فعسى أن يكون فيه رضا الله عزَّ وجلَّ، وأخفى غضبه وسخطه في معاصيه فلا تُحقرن من المعاصي شيئاً فعسى أن يكون فيه سخط الله وغضبه، وأخفى أولياءه في خلقه فلا تُحقرن من الخلق أحداً فعسى أن يكون ولياً لله عزَّ وجلَّ}.
مؤمن تحقق بذلك هل تجد بينه وبين غيره خلاف، أو فُرقة أو شتات أو جدال، أو تناحر أو تضاد أو ما شابه ذلك؟!! كلاَّ والله، ناهيك عن السبِّ والشتم واللعن!!! هذا لا يكون من مسلم مبتدئ في دين الله عزَّ وجلَّ، لأن: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) (البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).
إذاً آفة الآفات في المجتمع الآن العصبية، وخاصة بعد دخول الفِرق الدينية في المذاهب السياسية، فزادت العصبيات، وزاد الهجوم حتى على شاشات الفضائيات، وزاد الاستهزاء، وزادت السخرية !!
مَن يسخر بمن؟ مسلم يسخر بمسلم!! كيف هذا؟!! مَن يشتم مَن؟ مسلم يشتم مسلم، لِمَ هذا؟!! من أجل دُنيا دنيَّة، أو من أجل مناصب فانية، أو من أجل مكاسب بالية، لا ينبغي أن يكون ذاك بين المسلمين أبداً، لأن المسلمين لا يريدون في الدنيا ولا في الآخرة إلا وجه الله عزَّ وجلَّ ورضاه. وهذا مجال شاسع وواسع لا أريد أن استطرد فيه، ولكن أنتقل إلى مجال آخر في داخله:
نرى حتى داخل التجمعات، إن كان تجمعاً حول شيخ أو ولى أو عارف، أو تجمعاً حول حزب، أو تجمعاً حول أيِّ عصبية، بينهما أمور تدركونها جميعاً من النفوس، أمام الناس أخوة متآلفين، وإذا جالست أيَّ رجل منهم في غَيْبَةِ أخيه تعلم علم اليقين أنهم متشاكسون، وأن بينهما خلافات كما بين المشرق والمغرب!!! لماذا؟!! لأن كل رجل منهم يظن أنه استأثر بالنصيب الأعظم من العلم من العالم الذي يتبعونه، أو من البركة والنور من الشيخ الذي يلتفون حوله، وهو مسكينٌ لم ينظر بعين اليقين إلى ما معه، ولا ما مع غيره، فكيف ميَّز؟! وكيف جعل نفسه أميز؟! وكيف فرَّق؟! وكيف جعل هذا أقل من هذا، وهذا خيراً من هذا؟! إن هذا لا يكون إلا من عمى البصيرة، وطمس السريرة.