التأييدات الإلهية فى رحلة الهجرة النبوية الشريفة
-----------------------------
أولاً: الجنود الكونية
...................
فقد جعل الله عزَّ وجلَّ كل عوالم الأكوان عوناً ومدداً، وجنداً وعتاداً، وسلاحاً وقوة
لسيد الأكوان صلى الله عليه وسلم
وأصدر الله عزَّ وجلَّ أمراً لهم فى صريح القرآن
ولا يستطيعون جميعاً أن يتخلفوا عن طاعة الله طرفة عين ولا أقل،
فقال لهم:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
[64 - النساء]
لابد أن تكون كل الأكوان طوع أمره:
الأرض طوع أمره .. والشمس طوع أمره .. والقمر طوع أمره
والبحار طوع أمره .. وكل من عليها وما تحتها وما فوقها طوع أمره
وكل الحيوانات طوع أمره، وكل طيور الأرض طوع أمره،
وكل حشرات الأرض طوع أمره .. وكل مخلوقات الأرض
عدا الكافرين والمشركين والمُبعدين!!!
كانوا جميعاً طوع أمر سيد الأولين الآخرين صلى الله عليه وسلم
لا يستطيعون أن يتخلفوا عن حضرته طرفة عين.
فقد أيَّده الله عزَّ وجلَّ بالهواء، وأيَّده الله عزَّ وجلَّ بالضياء
فالهواء أخذ صوته صلى الله عليه وسلم ولم يوصله إلى أسماع المحيطين ببيته،
عندما كانوا يتحدثون مع بعضهم ويقولون:
إن محمداً يزعم أن من آمن به يكون له جنان كجنان العراق وبلاد الشام،
فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم: نعم أنا أقول ذلك،
ولكن الهواء لم يُسمعهم هذا الصوت حتى لا يتبينوه ولا يعرفوه!!
والضياء أخفى صورة حضرته صلى الله عليه وسلم فلم يروه ولم يتبينوه
مع أنه مرَّ عليهم أجمعين
ووضع على رأس كل رجل منهم حفنة من التراب،
لكنهم لم يروه ولم يسمعوه
لأن الله عز وجل أيَّده بهذه الجنود الكونية التى فى عالم الأكوان.
وأيَّده الله بذلك ليس حول بيته فقط
فإن أهل مكة عندما جمعوا جموعهم ووضعوا خططهم
حصروا الطرق التى توصل إلى مكة ويخرج الخارج منها
فوجدوها اثنى عشر طريقاً
فأوقفوا على كل طريق منها جماعة من الجند الأشداء،
أربعون حول المنزل
ثم كتيبة على كل طريق من الطرق التى توصل إلى مكة
لمن يريد أن يدخلها، ويمشى فيها من يريد أن يخرج منها!!
ومرَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يروه ولم يعرفوه ولم يسمعوه!!
واخترق كل هذه الحواجز لأنه يمشى بالله
ومن يمشى بالله فإن الله عزَّ وجلَّ يجعله معززاً ومؤيداً
فى كل خطواته بأمر مولاه جل فى علاه.
وعند الجبل صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل
كما ذكرت إحدى الروايات فى الأثر وذهب لغار حراء فقال له:
يا رسول الله لا أريد أن يصيبك مكروه على ظهرى!
فنزل وذهب إلى غار ثور، فسمع الجبل وهو يقول:
إلىَّ يا رسول الله، إلىَّ يا رسول الله
دعاه الجبل إليه وتولى حمايته بأمر من يقول للشئ كن فيكون!!
وقيَّد الله عزَّ وجلَّ له على ما تقول الروايات المذكورة فى السِيَّر
جنداً من عالم الأرض .. حمامتين وعنكبوتاً ونباتاً!
أو كما يذكر بعض العارفين:
أن الذى تمثَّل فى ذلك كله كان الملائكة المقربون
وقد تمثلوا بهذه الصور الظاهرة ليوهموا الكافرين
ولم يوجد فى الحقيقة عند الغار نباتٌ ولا عنكبوت ولا حمام ولا يمام
وإنما هى ملائكة الله، والملائكة أعطاها الله قوة التشكل
فتشكلت على هذه الهيئات لتحمى وتُخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذه الرواية فى السيرة الحلبية وغيرها لمن أراد المتابعة.
وهيأ الله عزَّ وجلَّ له الأرض وكانت طوع أمره
فعندما أدركه سراقة يُصدر لها الأمر ويقول لها: خذيه
فتنشق وتقبض على أقدام سراقة وأقدام فرسه
فيتضرع إلى حضرته ويستغيث به
فيُصدر الأمر للأرض ويقول لها: دعيه
فتُخلى عنه وتتركه
وتكرر هذا الأمر ثلاث مرات
لنعلم علم اليقين أن الأرض كانت مسيرة ومذللة
بأمر سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
***********
ثانياً: جند الملكوت الأعلى
..............
أعطاه الله عزَّ وجلَّ كل جند الأرض ليحفظوه ويحموه صلى الله عليه وسلم
ولكن الله عزَّ وجلَّ لم يكتفى له بذلك، بل أيده بالملكوت الأعلى، جند السموات
وأنتم تعلمون أنه قبل هجرته صلى الله عليه وسلم
عندما رجع من الطائف وقد آذوه وقف يدعو دعاءه المشهور:
يقول صلى الله عليه وسلم:
{فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ،
فَنَادَانِي فَقَالَ: إنَّ اللّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ،
وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ
إنَّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ،
وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ. فَمَا شِئْتَ؟
إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :
«بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»}
فالله عزَّ وجلَّ كشف لنا الأستار عن مكنون الشفقة الإلهية
الموجودة فى قلب هذه الحضرة الربَّانية
لأنه يطمع أن يخرج من أصلابهم من يُوحد الله عزَّ وجلَّ
ذلك رغم أنهم آذوه وعارضوه وسفهوه، وما تركوا شيئاً يصيبه بأذى إلا ونالوه
ومع ذلك لم يتغير نحوهم، ولم ينقلب حاله ويريد بهم سوءاً أو شراً،
ولم يضمر نحوهم إلاَّ الخير وإلا البرّ
لأن الله فطره على ذلك، وأعدَّه لذلك، وجعله صلى الله عليه وسلم أهلاً لذلك.
وأيده الله عزَّ وجلَّ بنزول الملائكة فى غزوة بدر، وغزوة أحد
وكانوا معه فى كل الغزوات:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)
[ 9-الأنفال]
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)
[124-آل عمران]
مرة بألف، ومرة بثلاثة آلاف من الملائكة
ومرة تكون الملائكة لرفع الروح المعنوية، ومرة يكونوا محاربين.
**************************
ثالثاً: نزول السكينة
........................
ثم بيَّن الله عزَّ وجلَّ فى الآيات القرآنية التأييدات الإلهية القلبية:
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ)
[26-التوبة]
والسكينة ما هى؟ وأين تنزل؟
السكينة: خطاب تأمين من ربِّ العالمين
إذا وصل لقلب العبد يطمئن أن عناية الله عزَّ وجلَّ معه
ولا يخشى سوى الله عزَّ وجلَّ أحداً، فى قوة: (نحن معك)
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)
[51غافر]
فأبشروا لأن الله عزَّ وجلَّ أدخلنا فى هذه المعية!!
أين تنزل السكينة؟
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)
[4-الفتح]
خطاب ذاتى، تأييد من الله، وإعزاز من الله، وضمان من الله
ليعلم العبد علم اليقين
أن الله عزَّ وجلَّ لن يتخلى عنه بعنايته ونصرته طرفة عين ولا أقل!
ولذلك كان حَبِيبُنَا وقرَّةُ عيننا صلى الله عليه وسلم يقول:
{ أَنَا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللهُ أبداً }
لن يضيعه الله لأنه أخذ خطاب ضمان ممن يقول للشى كن فيكون
بل إنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الله إصدار خطابات الضمان لسواه!
فقد قال للإمام علىّ: توَسد فى مكانى هذا، أى نَم فى مكانى
قال: يا رسول الله إنهم إذا نظروا ولم يروك فى فراشك ودخلوا علىَّ
قتلونى بضربة واحدة
فقال صلى الله عليه وسلم ما معناه كما فى السير: {لن يخلصوا إليك}
خطاب ضمان من الحبيب صلى الله عليه وسلم:
(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ)
[33-الأنفال]
مادام حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكن فى القلوب
حبًّا صادقاً للحبيب المحبوب فإن الله عزَّ وجلَّ يكشف عن العبد كلَّ ضُرٍّ
ويحفظه من كُلِّ عناء ومن كل لغوب، ببركة حب الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم.
والسكينة بالنسبة للمؤمنين تنزل فى قلوبهم إذا صلحت
وأصبحت صالحة لتنزلات ربِّ العالمين:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)
[4- الفتح]
لكن بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره
ظاهره نورٌ، وباطنه نور:
(نُّورٌ عَلَى نُورٍ)
[35- النور]
وأصبح كله كأنه قلبٌ نورانىٌّ، أنزل الله سكينته عليه كله:
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)
[40-التوبة]
أنزل الله عز وجل عليه سكينته، وزاده الله عزَّ وجلَّ فأنزل عليه طمأنينته.
والطمأنينة تنزل لمن؟
للذاكرين بالقلوب وبالرُّوح لربِّ العالمين:
(أَلاَ بِذِكْـرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْـقُلُوبُ)
[ - 28الرعد]
وزاده الله عزَّ وجلَّ فأنزل عليه أُنسه، آنسه بوجهه وآنسه بجماله وآنسه بكماله
ولذلك قال لصاحبه عندما قال له: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا
قال: { يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُمَا }
كان فى أُنس بمولاه، لا يستطيع أحدٌ من الأولين والآخرين وصفه
لأنه أُنس حبيب الله بالله جلَّ فى علاه، يكفى فى وصفه
قول الله لمن أراد أن يلمح ذلك بعين قلبه:
(ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)
[40- التوبة]
كان فى الغار اثنان .. والخطاب فى اللغة العربية كان يقتضى أن يقول ثالث اثنين
لكن الله قال: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، لأن الحبيب غاب فى مولاه
وفَنَى بالكلية فى حضرة الله، فأصبح غائباً عن نفسه موجوداً بمولاه جلَّ فى علاه
فلم يعد هناك مثنوية، لفنائه بالكلية فى الحضرة الإلهية.
وأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه من جند لطفه
ما لا يستطيع أحد من الأولين والآخرين ذكره أو عدُّه
يكفى أن تعلم فى هذا الميدان أن الله عزَّ وجلَّ تجلى على قلبه بكل أسماءه وصفاته
وكان كل وصف من أوصاف الله مُعيناً لحبيب الله ومصطفاه
وعوناً له فى مواجهة أعدائه وأعداء الله جلَّ فى علاه.
****************
من كتاب: (ثاني اثنين)
لفضيلة الشيخ/ فوزى محمد أبوزيد
رئيس الجمعية العامة للدعوة إلى الله
جمهورية مصر العربية