الإِيمَانُ بِضْعٌ وسبعون شعبة
شُعَبُ الإيمَـان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض الإيمان على جميع العقلاء من الإنس والجن والملائكة، فقال عزَّ شأنه:
﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ﴾ [8التغابن]
والصلاة والسلام على أول المؤمنين، فقد قال الله تعالى:
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [285البقرة]
فقد بينت تلك الآية الشريفة أن رسول الله آمن أولاً بكل ما أنزله الله عزَّ وجلَّ إليه من الدين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن المؤمنون – أى من هداهم الله للإيمان. وكذلك قول الله عزَّ وجلَّ:
(قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ [81الزخرف]
فقد بينت هذه الآية الشريفة أن رسول الله أول العابدين. والعبادة هى القيام بأوامر الله واجتناب نواهيه، ولا يقوم بهذه العبادة إلا مؤمنٌ كامل الإيمان بالله الذي فرضها وأوجبها عليه، فأول العابدين هو أول المؤمنين صلى الله عليه وسلم، والصلاة والسلام على آله وصحابته وورثته وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وبعد ….
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق}
(البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
والإيمان هو تصديق القلب لرسول الله في كل ما أخبرنا به، وبهذا التصديق يكون الإنسان مؤمناً، وهذا التصديق له متعلقات كثيرة:
أولاً: تصديق القلب بأن الله واحد لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله.
ثانياً: تصديق القلب بأن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليهدى الناس إلى صراط الله المستقيم، وأنه خاتم رسل الله وأنبياءه.
ثالثاً: تصديق القلب بأن الله أرسل قبله صلى الله عليه وسلم رسلاً كثيرين لإخراج أممهم من الظلمات إلى النور، وأنهم بلغوا رسالات ربهم إلى عباده.
رابعاً: تصديق القلب بأن الله له ملائكة قائمون بأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
خامساً: تصديق القلب بكتب الله، وشرائع الله التى أرسل بها رسله إلى الناس، من التوراه والإنجيل والزبور والقرآن وغيرها.
سادساً: تصديق القلب بالموت وما بعهده من حياة برزخية.
سابعاً: تصديق القلب بالبعث والنشور من القبور.
ثامناً: تصديق القلب بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب، وحساب وسؤال، وجنة ونار.
تاسعاً: تصديق القلب بقضاء الله وقدره، حلوه ومرِّه، شرِّه وخيره، وأن الكل من الله عزَّ وجلَّ.
والتصديق بكل هذه الحقائق لا يعتريه شك ولا ريب، من ساعة الإيمان بها إلى ساعة الموت. والتصديق عمل من أعمال القلوب، وهو التحقق بصحة الأخبار التى صدَّق بها، وبثبوتها واستقرارها. قال الإمام أبو العزائم رضى الله عنه:
الصِّدْقُ نُورُ يَقِينٍ كَشْفُ الحَقِيقَةِ بِهِ تَنْجَلِى الأَسْرَارُ حَالَ الشَّهَادَةِ
ومعنى {بضع}: العدد من ثلاث إلى تسع، ومعنى {شعبة}: غصن الشجرة وجمعها شعب، وذلك التعبير النبوى الشريف في غاية الإبداع، إذ أنه صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان شجرة، أصلها ثابت في قلب المؤمن وهو التصديق بما سبق ذكره، وشعبها وفروعها وأغصانها هى أعمال المؤمن وأقواله وأخلاقه، من العبادات والمعاملات والسلوكيات الشخصية.
وتلك الشعب جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وسبعين شعبة – أو ما يزيد عليها – إلى تسع وسبعين شعبة، وذكر لنا سيدنا رسول الله أول هذه الشعب وأعلاها، وأجلَّها وأهمها، وهى قول المؤمن: (لا إله إلا الله)، فإنها أساس الإسلام، وأول فرض فرضه الله على الإنسان بعد تصديق القلب بها،
حتى يكون لفظ المؤمن معبِّراً عن ما في ضميره من الاعتقاد والتصديق، فيتَّحد ظاهر المؤمن بباطنه في العمل – قلباً وقالباً – فيعتقد القلب الحقائق والمعانى،
وينطق اللسان بالعبارات التى تبرز هذه المعانى من عالم الغيب والسرِّ إلى عالم الشهادة والعلانية.
وكلا الأمرين فرضٌ أوجبه الله على المؤمن، فالاعتقاد والتصديق فريضة القلب، والنطق والإقرار فريضة اللسان، وكلاهما متممٌ للآخر، ولا غنى لأحدهما عن الثانى إلا في حالة عجز اللسان عن النطق، فيعبِّر بأى وسيلة أخرى من الكتابة، أو الإشارة، أو العمل الصالح الذي يدل على التصديق والإعتقاد والإنخراط في سلك المؤمنين.
ثم ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى الشعب، وأقل عمل يقوم به المؤمن من الخير والبرِّ والمعروف، وهو تنحية الأذى من طريق الناس، من حجر أو شجر، أو شوك أو قذر، أو تذليل مرتفع أو تسوية منخفض، أو نحو ذلك مما يمهد طريق المارة ويعبِّده، ولو لدابةٍ وبَهيمة.
وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر بقية الشعب والأقسام، حتى يجتهد المؤمن في التعرف عليها، ويُعمل فكره وعقله، ويبحث حتى يكون على علم ويقين بأوامر الله وأحكامه، وآداب الله ورسوله، من الواجبات والمسنونات، والمندوبات والمستحبات، وكذلك يحيط علماًُ بالمحرمات والمكروهات والمباحات، فيكون المؤمن عابداً لله ببحثه وطلبه للحكمة والمعرفة، فيصير بذلك من أهل محبة الله وأهل خشيته، سر قول الله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [165البقرة]
وقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ [ 28فاطر]
وبقية الشعب ذكرها الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم، وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة، وبفضل الله وتوفيقه سنذكرها في هذا المختصر – على قدر الاستطاعة – حتى نقرِّب على القارئ الكريم المسافة، ونُريحه من عناء البحث والتعب. والله أسأل أن يُمِدَّنا برُوح من عنده، وأن يمنحنا الرشد والصواب، بجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه هى الشعب بين يديك، فخذها هدية من الله ورسوله إليك لتنال خير الدارين، وسعادة الحياتين – بعد أخذها والاستمساك بها.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
من كتاب: (شعب الإيمان) – لفضيلة الشيخ/ محمد على سلامة
مدير أوقاف بور سعيد الأسبق