خطبة الجمعة بمسجد النور- حدائق المعادي 17/9/1999م
بداية العام الدراسي
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، ربانا على نعماءه، وأمرنا أن نقرأ حكمه في أرضه وسماءه، فننظر إليها نظر المعتبرين لا نظر المغترين، ونهتدى بما فيها من براهين ودلالات على قدرة رب العالمين، سبحانه سبحانه الملك والملكوت في قبضته، والعالم العلوى والسفلى رهن إشارته ولا يفعل أحد أمراً إلا بحكمه وإرادته، قضاءه نافذ وحكمه لا يُرد، وله عز وجل الأمر من قبل ومن بعد، وإليه المرجع والمآب وإليه المصير، وهو على كل شئ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن الوصول إلى معرفة كنهه بالدلائل والبراهين، لأنه عز وجل: "لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [الأنعام:103] لا تعلمه العينان، ولا تحيط به أصمخة الآذان، ولكن تحس بقربه وبوده القلوب بعد صريح الإيمان، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله النبي المجتبى والرسول المرتضىالذي كان أول أمر أنزله عليه مولاه في كتاب الله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق:1-5] اللهم صلى وسلم وبارك على النبي المكينالذي علمه القراءة رب العالمين فقرأ بأمر ربه وهم يعدونه في الأميين، وجعل دينه وأهله دين العلم والعلماء في كل وقت وحين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وكل من اتبع هداه إلى يوم الدين...آمين آمين يارب العالمين.
أما بعد فيا أيها الأخوة المسلمون:
ونحن في ابتداء عام دراسى جديد لأولادنا وأحفادنا، ما دورنا نحن في العلم؟ وماالذي يأمرنا به نحو العلم ديننا؟ لقد جعل نبينا صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم وعلى كل مسلمة، ليس لمدة تزيد أو تقصر في كل عام أو تنهى عند مرحلة محددة من العمر، بل جعل طلب العلم في قوله صلى الله عليه وسلم:
{ اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ، فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ، عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } (البيهقي)
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في رحلة الإسراء والمعراج وبعد أن تجاوز سدرة المنتهى ووقف الأمين جبريل وقد كان يصاحبه وقال: يا محمد تقدم واخترق فإلى هنا انتهى مقامي ولو تقدمت طرف أنملة – أى طرف أصبع – لاحترقت: "وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ" [الصافات:164] ثم زج به بيدة زجة فتدلى الرفرف الأخضر وركبه صلى الله عليه وسلم إلى قاب قوسين أو أدنى، يصف الحبيب صلوات الله وسلامه عليه هذه اللحظة فيقول: نزل على لساني قطرة أحلى من العسل وألين من الزبد وأبرد من الثلج فعلمت علوم الأولين والآخرين، وأعطاني الله عز وجل ثلاثة علوم: علم أمرني بالإخبار به وعلم أمرني بكتمه وعلم خيرني فيه.
علَّمه علوم السابقين أجمعين، وعلَّمه علوم النهاية وما يحدث للمرء في البرزخ بعد موته، ومواقف القيامة موقفاً تلو موقف والجنة ونعيمها والنار وعذابها، وعَّلمه فضلاً عن ذلك علوم الكائنات حتى قال سيدنا أبو ذر رضى الله عنه:
{ لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ إِلَّا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا } (مسند الإمام أحمد)
فعلَّمهم أسرار السموات وبدائع المخلوقات وحكمة خلق الله لجميع الكائنات ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل له: "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً" [طه:114] لا تظن أنك وصلت النهاية في العلم أو الغاية في الفهم أو النهاية في تحصيل العلوم لأن العلم ليس له نهاية، له بداية وليس لمداه نهاية، فالمؤمن يتعلم منذ أوجده الله إلى أن يتوفاه الله عز وجل.
وقد كان الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه يجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجمعها بأسانيدها أى فلان عن فلان عن فلان حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع ستمائة ألف حديث وكتبها بيده، فأراد بعض المشفقين عليه أن يجعله يحد من طلبه للعلم، فقال رضى الله عنه: (مع المحبرة إلى المقبرة) أى أمسك بالمحبرة لأكتب منها الحديث حتى يتوفانى الله عز وجل.
وهذا أخيه في العلم يأتيه الموت ويشتد عليه كربه فيحضر بعض إخوانه فيسأله عن مسألة في الميراث فيقول له: أفى تلك الساعة وأنت تعالج سكرات الموت؟! فقال: وماذا علىَّ لو تعلمت هذه المسألة قبل أن أموت؟! فلأن أذهب إلى ربي وأنا بها عالماً خير من أن أذهب إليه وأنا بها جاهلاً، والأمثلة في هذا المجال لا تعد ولا تحد.
لماذا جعلوا هذا الإهتمام بالعلم؟ حتى أنه عندما حدث حريق ببغداد حرق خزانة العلم لدى الخليفة المأمون وكان فيها مائة ألف كتاب في شتى فنون المعرفة، فحزن الخليفة عليها، فقالوا له لا تحزن فهناك فلان العالم يحفظ كل ما كان في جدرانها من الكتب عن ظهر قلب، فاستملوه فأملاهم كل ما كان فيها من العلوم بحسب تصنيفها وبحسب أنواعها ولم يترك من ذلك حرفاً، لماذا جعلوا هذا الإهتمام؟ لأن العلم فريضة وليس نافلة، فلو مكث رجل في يوم يصلى ألف ركعة ثم جاء آخر وطالع درساً من العلم يبغي به وجه الله ويبغي أن يعمل به ويُعلِّم غيره ابتغاء مرضات الله كان مجلس العلم هذا خير من الألف ركعة النافلة لأن العلم فريضة، فهو خير من قيام الليل وخير من صيام النوافل وخير من كل أعمال البر النفلية لأنه فريضة وينبني عليه جميع الأعمال، فكل عمل أُسس على العلم فهو مقبول عند الله عز وجل، وكل عمل أُسس على جهل أو على غير علم فهو مردود على صاحبه، فالعلم أساس قبول الأعمال.
وقد جعل الله عز وجل فضله لا يعد ولا يحد وقال في شأنه: "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " [الزمر:9] فهؤلاء لا يساوون هؤلاء، سألوا سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل العبادة أم العلم؟ العابد أم العالم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
{ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ } (سنن الترمذي)
وفى رواية أخرى:
{ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ } (سنن الترمذي)
فالعلم هو أساس حياة كل مؤمن، والعلم الذي يطالبنا الله عز وجل به علمين؛ علم نعلم به أحكام شرعنا وديننا، وهذا فرض علينا حتى لا نعمل إلا على شرع الله، وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يدخل السوق ويختبر التجار في المعاملات والأحكام الربوية فإذا وجد أحدهم لا يفقه تلك القضية يخرجه من السوق ويقول: (من لم يتفقه في ديننا أكل الربا وهو لا يدري) فالمؤمن لا يعمل عملاً في نفسه أو في بيته أو في عمله أو مع أهله أو مع جيرانه وأقاربه أو مع سائر الناس إلا إذا علم حكم شرع الله فيه وسنة حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فيه، علم الشرع وعلم الدين فرض على جميع المسلمين والمسلمات، وليس هناك عذر للمرء في عدم تعلمه لأن الله قال للمؤمنين: "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [النحل:43].
العلم الآخر هو علم التفكر والتدبر في خلق السموات والأرض، وفى الكائنات، وفى عبر الزمان، وفى حوادث المكان، فالمؤمن ينظر بعين قلبه بعد أن ملأ قلبه بالإيمان وحشاه بالإيقان، فيكون له في كل نظرة برهان على ثناء الأكوان وعلى قدرة الرحمن وعلى أنه لا ينفعه إلا الأعمال الصالحة والإيمان، وهذه القدرة هي التي علينا أن نكسبها لأبنائنا، فإن الله U عندما أمر حبيبه ومصطفاه أن يقرأ، ماذا يقرأ: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" [1-2العلق] يقرأ كيفية الخلق، ويقرأ حكمة الخلق، ويقرأ قدرة الله في الخلق، وهذه لا تحتاج إلى رموز أبجدية وإلى كتابات عربية أو أجنبية بل تحتاج إلى طاقة في القلوب إيمانية وفكرة مملوءة بالشريعة الإسلامية.
فإذا نظر بعين الفكر من قلب مملوء بالإيمان، وحاضر بالذكر ينظر إلى الأكوان فيهتدي بها إلى قدرة الرحمن، وينظر لما يحدث لبني الإنسان فيعتبر ويعمل الأعمال الصالحة التي ترضي عنه الرحمن، ويرجع عن الغى والقبيح خوفاً من محاسبة الديان U.
فنحن أجمعين نحتاج إلى هذا العلم في كل وقت وحين، وهذا العلم علم التفكر والتدبر لا يحتاج إلى كتب ومجلدات ولا مناظير ومكبرات، ألواحه وكتبه الأكوان، ومنها مجمل في الإنسان، فالإنسان كتاب صغير يقول فيه العلى القدير: "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" [الذاريات : 21] والكون إنسان كبير فيه كل ما في الإنسان، والإنسان فيه ريموت كنترول يصيطر به على كل ما في الأكوان لكنه لا يستطيع تشغيله إلا بإذن من الرحمن U، فينظر في نفسه ويعتبر، وينظر في الأكوان ويدكر ويلقن هذا العلم لأبناءه وبناته حتى لا يفتتنون بزينة الدنيا وزخرفها عن الله U.
نحن نعلمهم كيفية التعامل مع الكمبيوتر ومع التلفزيون ومع اللغات الأجنبية مع أحدث الأجهزة العلمية، لكن مع ذلك وقبل ذلك لا بد أن نعلمهم كيف يتعاملون مع حضرة الله، فإن تلك العوم ليست غاية وإنما وسيلة، والغاية هي معرفة الله والوصول إلى رضوان الله، وليس هناك أهم ولا أبقى ولا أرقى من هذه المعرفة في ظلمات هذه الحياة، ولا يعرف العبد كيف يتعامل مع الله إلا إذا عرف كيف يفكر.
نفكر أجمعين ولكن بعد أن حشونا عقولنا بالشهوات والنزوات والمشتهيات والماديات، فأصبح كل ما يصيطر على فكر صغارنا وأبنائنا وبناتنا كيفية الحصول على شهوة، وكيفية الحصول على المال بأى وسيلة وأى كيفية، وكيفية نيل الملذات والمشتهيات .... نريد أن نبدل ذلك ونعلمهم كيف يهتدون بخلق الله إلى الله، وكيف يفكرون التفكير الصحيح الذي يمدح الله U أهله فيقول: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" ونتيجة هذا التفكير قولهم: "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [190-191آل عمران] ونعلمهم علم اليقين أن منهج التفكير في ديننا هو قول حبيبنا ونبينا وصفينا:
{ تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَلا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ فَتَهْلِكُوا } (الأصبهاني)
وأجر التفكير أعلى من جميع أجور العبادات النفلية، ولذلك يقول فيه خير البرية r:
{ َلا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ } (الطبراني)
أو كما قال: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة}
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للرشد وجعلنا من عباده الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملجأ والمنجأ لنا في كل وقت وحين، والمُخرج لنا من كل ضيق في الدنيا والذى يُدخلنا برحمته في الأخرة في عباده الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله النبي المصطفى قائد الغر المحجلين والمرسل بفضل الله رحمة للخلق أجمعين، اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وعلينا معهم بفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فيا عباد الله جماعة المؤمنين:
اعلموا علم اليقين أن الله كلفنا نحن - فوقاً عن المدرسات والمدرسين - بتدريس الأخلاق لأبنائنا بسلوكنا وطريقة حياتنا، وبتدريس التفكير الإسلامى باصطحابنا لهم في دروسهم، فهم والحمد لله يدرسون تشريح جسم الإنسان ولكن يحتاجون منا معشر الآباء أن نعطيهم مع هذا العلم وهو علم الأحياء لمسة الإيمان، هذه اللمسة تزيدهم إيماناً وتزيدهم برهاناً، فإذا درس مثلاً تشريح العين أعطيه لمسة عن العين وكيف أن لكل فرد من بداية الدنيا إلى آخرها بصمة للعين لا تشبه عيناً واحدة أخرى في السابقين أو اللاحقين، وكيف أن إنسان العين وهو النني الذي ينظر به المرء فيه حوالى مليارى كاميرا تعمل بكل الزوايا والإتجاهات في وقت واحد، كم زووم في هذه العين خلقهم رب العالمين؟!! ولو تعطل واحد منهم لم يسعفه الحكماء أجمعين إلا بقدرة من يقول للشئ كن فيكون.
فإذا درس مثلاً المخ أقول له تعالى معى إلى رحلة في المخ، فقشرة المخ وهي الجزء الأعلى منه، وهي التي انفرد بها الإنسان عن جميع الكائنات فيها أربعين مليار خلية عصبية، تشمل حياة الإنسان الظاهرة والباطنة، وكبار العباقرة الذين نسمع عنهم في السابقين أو اللاحقين يموت الواحد منهم ولم يستخدم واحد على مليون من خلايا مخه الذي جعله الله U له، فيه ذاكرة تحفظ المعلومات، وفيه خلايا تلهمه عند المعضلات، وفيه قوى يستخدمها للتفكير للوصول إلى الحل الأمثل في المشكلات، وفيه قسم للتصور يتصور فيه ما لا يراه بعينيه، وقسم للتخيل يتخيل النموذج الأمثل الذي يريد أن يراه .... وغيرها من النماذج والمُثل القويمة التي يحتاج إليها نشأنا، فنضيف إليهم اللمسة الإيمانية ليترسخ الإيمان في صدورهم ويزيد اليقين في قلوبهم وتكون علوماً نوراً لهم لا يرجون بها منفعة الحياة فقط ولكن منفعة الحياة ونوراً لهم يوم لقاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم