[b]
إن رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد نفذ ببصيرته النورانية من خلال حجب الزمان والمكان وأطلعه مصرِّف الأكوان I على ما سيكون في مستقبل الزمان! فأخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أيامنا هذه، وخبَّرنا ما سيحدث لنا فيها، وما سيحدث بيننا وحولنا! وكأنه يعيش بين ظهرانينا، فقد قال صلى الله عليه وسلم
{ ستكونُ فِتَنٌ }[1]، ووصفها r وصف الرائى بعينيه فقال في روايات عدة:
{ فِتَنٌ كَقِطِعَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضِ الدُّنْيَا }[2]
وأخبر بتلبُّسها على الناس واشتباهها عليهم فقال: { مشتبهةٌ كوجوهِ البقَر، لا تدرون أيُّها من أيِّ الفتن }[3]، وأخبر أيضاً بترادفها وبتتابعها واشتدادها: { يتبَعُ آخِرُها أولَها، الآخرَةُ أشدُّ من الأُولى } [4]، ووصف صلى الله عليه وسلم شدة تأثيرها قائلاً: { فتَصْدُمُ الرَّجُلَ كَصَدْمِ جِباهِ فُحُولِ الثِّيرَانِ }[5]
يكفي هذا؛ ثم نعود لحديث عليّ t، قال صلى الله عليه وسلم
{ ستكونُ فِتَنٌ، قلتُ: وَمَا المخرجُ مِنْهَا، قالَ: كتابُ اللَّهِ، كتابُ اللَّهِ فيهِ نبأُ مَا قبلَكُم وخَبَرُ مَا بعدَكُم، وحُكْمُ ما بينكُم، هُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بالهزلِ، هُوَ الذي منْ تركَهُ مِنْ جبارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابتغَى الهُدَى في غيرِهِ أضلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ المتينُ وَهُوَ الذِكْرُ الحكيمُ، وَهُوَ الصراطُ المستقيمُ، وَهُوَ الذي لا تزيغُ بِهِ الأهواءُ، ولا تلتبِسُ بِهِ الألسنةُ، ولاَ يشبَعُ مِنْهُ العلماءُ، ولا يَخْلَقُ عنْ كَثرةِ الردّ وَلاَ تنقَضِي عجائبُهُ، وَهُوَ الذي لم ينتهِ الجنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أنْ قالوا: {إنَا سَمعنا قرآناً عَجباً}، هُوَ الذي مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عمل بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إليهِ هُدِيَ إلَى صراطٍ مستقيمٍ }[6]
وسأزيدكم حديثا فوق هذا الحديث! وهو حديث شريف أنتم أيضا تعرفونه جميعاً منذ الصغر بل تحفظونه بروايات!، قال وسلم { إِنِّي قد خَلَّفْتُ فِيْكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، أو عَمِلْتُمْ بِهِمَا: كتابَ الله وسُنَّتِي، ولَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحوضَ }[7]
وما الجديد هنا؟!! كلنا نعرف أن الإصلاح في الكتاب والسنة! والسبيل من الكتاب والسنة! والواقع يحكى أنَّ القرآن وكتب الحديث صارا في كل مكان في المساجد والبيوت والسيارات والجيوب! نسخاً ورقية وأخرى رقمية على المحمول والكمبيوتر وغيرها! وصرنا ما شاء الله! قد كثر القراء والحفَّاظ والفقهاء والوعاظ! ما أكثر التسجيلات والفضائيات وقرآن يتلى بالليل والنهار! وما أكثر الإذاعات والإنترنت! والمعاهد العلمية والجامعات الدينية! ودور التحفيظ والجماعات الدينية! وحتى كل ما هو وراء الخيال!
هذا هو الواقع! فلمَ زادت الأغلال وساءت الأحوال؟! لِمَ يزداد الحفاظ والقرَّاء ويتزايد الجهَّال ويزيد الفقراء؟! لِمَ يزداد الوعَاظ ويقل الإتعاظ؟! لِمَ لمَّا استوطنت علوم الدين ديارنا رحلت الراحة السعادة عن بيوتنا؟! لمَ يهرب المسلمون من الديار لموطن الكفَّار والفجَّار، ويرفض هؤلاء أن يأتوا بلادنا إلا بقدر ما ينهبون ثرواتنا ويسلبونا خيراتنا! ويزرعوا المزيد من الشقاق والبغضاء بيننا؟!.
ما الأمر إذاً؟ وكيف صرنا إلى ما نحن فيه؟ هل هى إزدواجية نحياها؟ أم قضية التبست علينا فحواها؟ هل خطة الإصلاح واضحة؟ أم هو فقط تشدُّقٌ بالكلام أو إلقاء الملام! أم بحث عن أدوار في الزحام؟ .. هل هو كل هذا معاً؟ أم اختلطت الحلول وأظلتنا فتن نبوءة الرسول؟ أليست تلك هى الفتنة أيها الناس؟! أليس هذا هو الإشتباه والإلتباس الذى حذَّرنا منه سيد الناس؟! فتنٌ مشتبهةٌ كوجوه البقر! ألا تكاد الرؤوس تتحطم من هول ما يجرى! وصرنا كمن صدمتهم فحول الثيران!
ونكتفي بتلك الإطلالة عبر الغيوب الآن بعد عودتنا للواقع المدان! وتعالوا لنستكمل معاً جولتنا عبر المدخل إلى الإصلاح! ولنا فيها سؤالان:
من يقود قاطرة الإصلاح؟
أرسى الإسلام المبدأ الأساسي والمنطلق الأول للتغيير أو بلغة العصر لإصلاح الأفراد والمجتمعات في أول آية نزلت من كتاب الله تعالى بقوله تبارك اسمه وتعالى جدُّه: } ﴿اقْرأْ باسْم ربك الذي خلق خلق الإنْسان منْ علقٍ اقْرأْ وربُك الْأكْرمُ الذي علم بالْقلم علم الإنْسان ما لمْ يعْلمْ﴾ { (1-4العلق)
فكانت أول كلمة من القرآن يعلمها r لمن آمن به هي اقرأ، وكانت أول آيات صدح بها نبي الإسلام في آذان البشرية في جدب تلك البرية التى خرج منها سيد الأنبياء لهداية البشرية جمعاء ورفع العنت عنها والشقاء هى الأمر بالعلم والتعلُّم وإعمال العقل كما جاء أمر السماء!
وقد كان سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم دائما ما يقول لإصحابه وللأمة من بعدهم: { إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلمَاً }[8] ...، ولذا كان من هديه في تربية أصحابه أن يجمعهم من وقت لآخر ليزكِّي نفوسهم ويرقِّق قلوبهم، ويصحِّح أحوالهم، ويزيدهم علماً بربِّهم .. وبكتاب ربِّهم .. وبنبيهم ... وبشرعهم ..، تطبيقاً لقول الله له: } أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً / { (63النساء).
إنها التربية الإيمانية المستمرة أو إن شئت أن تقول بلغة العصر التنمية البشرية المستدامة على الأسس النبوية والمفاهيم القرآنية!
فكان وسلم إجمالاً يربيهم ويعلمهم قولاً وفعلاً كيف يصلحون أنفسهم فيكونوا نواة إصلاح أسرهم، فمجتمعهم الصغير، فالكبير! وهذا عين القصد من الدين، لأن الإصلاح هو رِسَالَةُ المُرْسَلِين والنبيين في كلَّ وقت وحين! ذلك لأن الله جعل تأسيس إصلاح أمور الدنيا والدين على الأنبياء والمرسلين، فإن ذهبوا ينوب عنهم في تطبيق مناهجهم لإصلاح العباد والبلاد العلماء العاملون بالشرائع التى جاء بها الأنبياء والمرسلون.
ولذلك فإن السبيل المحقق للنجاح والصلاح والإصلاح هو السبيل الذى جاء به رسول الملك الفتاح ,ومن يقود المهمة ويقوم عليها هم العلماء العاملون، فالإصلاح هو رسالة العلماء والصالحين والأولياء، من بدء الدنيا إلى أن يرث الله U الأرض والسماء، ولذا ورد في الحديث الشريف: { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَـاءِ } و { العلماءُ خُلَفاءُ اَلأنْبيَـاءِ }[9]
هل الرسل والأنبياء أو علماء الدين سيبنون المصانع أو العمارات! أو يستصلحون أرضاً ويملئوها بالزراعات؟ أم سيحضرون لنا ذهباً وجنيهات؟!
وقد سبق وأجبنا في الفصل السابق أن المال وحدهُ لا يصنع الإصلاح، ولكن وحتى لا يتوهَّم أحدٌ من تساؤلنا أننا نقلل من شأن من سيشيدون المصانع أو العمارات أو يقيموا الزراعات، فإننى أقول أن أمر سبيل إصلاح الأفراد والمجتمعات لا ينتهي عند العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين، الذين يرسمونه للأمة منهج الإصلاح المبين، ولكنهم بلغة اليوم يضعون الدستور الأساسي لخطة الإصلاح، فيُقعِّدون القواعد والركائز والأسس التي تبنى عليها كلُّ برامج الصلاح والإصلاح! فالعلماء العاملون بالدين يضعون دستور إصلاح الأمة على نهج المرسلين بما يناسب الزمان والمكان.
أما الوسائل التنفيذية والمذكرات التفسيرية والحلول العملية والتطبيقية لتلك الخطط الإصلاحية في المناحى الحياتية
[size=24]فعلى الأمة كلها إن أرادت الصلاح والإصلاح أن تتبع منهاج العلماء العاملين القائم على الشرع والدين، ثم تجعل الأمة مرجعيتها بعد ذلك في كل ناحية من نواحي حياتها لأهل الذكر في تلك الناحية، أى كما نقول اليوم لأهل العلم والعلماء والخبرة والدراية.
[/size]
وهذا يوجِّه أفهامنا إلى أنه لتكون خطط الإصلاح والنهضة شاملة ودائمة ومتطورة ومؤيدة من الله! فلا بد للأمة أن ترسم خطط تربية أبناءها لتصنع كوادرها العلمية وأهل الذكر الذين يدينون لها ولدستور إصلاحها بالولاء من الألف للياء، فهى خططٌ إصلاحية وتربوية متكاملةٌ متَّفقة مع الدين، وسنة سيد المرسلين، وفقه أهل اليقين من العلماء العاملين، وقد فصَّلنا ما يخصُّ تربية الأبناء بجلاء في كتابنا { تربية القرآن لجيل الإيمان}.
وهنا تحضرنى كلمات قليلة للسيد مهاتير محمد رائد النهضة الحديث لدولة ماليزيا والذي استطاع أن يقود مسيرة الإصلاح في العصر الحديث لتلك الدولة من خلال الفهم الإسلامي الصادق والمستنير قال فيها :
{ إن أول ما دعا إليه القرآن هو اقرأ، وهذا لا يعنى أن نقرأ القرآن وحده، ولكن هى دعوة للمعرفة التى لا يمكن أن تجعلنا نتجاهل أهمية التعليم والذى يتطلب ألا نعمل بمفردنا وننأى عن معرفة كل شيء
منقول من كتاب[إصلاح الأفراد والمجتمعات] شاهد كتاب إصلاح[/b]