الباب الأول
من هم الصوفية
معني كلمة الصوفية
إن هذا اللفظ لا دليل لغويا يدل على أنه مشتق من الاستصفاء، ولا من الاصطفاء، ولا من الصف، ولا من
الصُفة نسبة لأهل الصفة، ولا من الصوف، والظاهر أن مدلوله فعل ماض مبنى للمجهول خبرا عن صفاء قلب
من سمى به.
أئمة الصوفية:
والصوفية إمامهم الأول بعد أمير المؤمنين على كرم الله وجهه سيدنا أبو ذر الغفاري، وسيدنا سلمان الفارسي
رضى الله عنهما.
الفصل الأول
تعدد مناهج الأخلاق عند الصوفية
أولاً: الصوفي قدم دار البقاء على دار الفناء وباع ما يزول بما يدوم
معلوم أن الأشياء كلها لها ظاهر وباطن وهو لبها، فكذلك الدنيا والآخرة، وللدنيا أبناء وللآخرة أبناء، فأبناء
الدنيا شغلوا بما تقتضيه حظوظهم، وشهواتهم، وأهوائهم، وما يدعوهم إليه الحس والجسم، فرضوا بالحياة الدنيا،
واطمأنوا بها (وما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا متاع) (الرعد:26). فاستخدموا جوهر النفس النورانى ، ونور
العقل الروحانى لتحصيل كماليات الجسد الفاني، جهلا بالآخرة، أو تجاهلا.
والصوفي عرف قدر الدنيا بالتعليم، وتحقق زوالها بالتفكير، وأيقن أن بعدها دار هي الدار حقا، لا يسعد فيها إلا
من تخلي عن دنس الأجسام، وخبث الشياطين، ودناءة البهائم، وبلادة النباتات، وثقل الجمادات، حتى يتشبه
بعالم الملكوت الأعلى.
الصوفي علم قدر الدنيا والآخرة، فقدم ما يبقى على ما يفنى، وباع ما يزول بما يدوم.
ثانيا: الصوفي من جاهد نفسه وانسلخ من مقتضيات نقائصه
الصوفي رأي فى نفسه عوائق تعوقه عن بلوغ كماله الحقيقي، تلك العوائق راسخة فى فطرته، رايسة فى
حقيقته، جواذبها إلى الراذائل قوية، ودوافعها عن نيل الخير شديدة، ومقتضياتها التى توبق فى الدرك الأسفل من
النار ملازمة، ولكنه سطعت على جوهر نفسه أنوار تلك الكمالات من جانب الروح، وناده الحق من قبله: (إني
أنا ربك) (طه :12). خلقتك لذاتي وخلقت لك كل شيء ومنحتك الحرية والإرادة، وبينت لك الشر، وأعددت لك
النظر إلى وجهي، فى دار كرامتي، وجوار الأطهار المقربين ممن اصطفيتهم من خلقي، فسمع ولبي، وحن
واشتاق، ثم دعته فطرته الحيوانية فى دار البلية، فنظر وفكر، وتأمل وتدبر، فرأي الدنيا قد آذنته بزوالها،
وأشهدته عملها فى أبنائها، فرآهم بين راحل إلى القبور، وبين غافل عن الآخرة مغرور، فجاهد نفسه فى الله
حتى أطاعته، وانسلخ من مقتضيات نقائصه كما ينسلخ من النهار.
ثالثا: الصوفي غريب بين أهله
الصوفي صغرت والله- الدنيا فى عينه حتى كره المقام فيها بين أهله، لولا رحمته ببني جنسه ليدعوهم إلى
الخير، واستوحش والله- حتى من نفسه، وتمني أن يكون نفسه الثاني فى رمسه، شوقا إلى جوار حبيبه المختار،
والأنس بالصفوة الأطهار، فى مقعد صدق عند مليك مقتدر، رجع بكليته إلى الماضي، مسارعا إلى ما كان عليه
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقيدة والعبادة، والحال النبوية، والأخلاق الربانية، ومعاملتهم الله
تعالى فى خلقه، ورجع إلى الماضي من السنة السمحاء، والطريقة المستقيمة، فكان غريبا بين أهله لجهلهم
بالسنة، وتساهلهم بالملة، ولو ظهر بينهم رجل من الصاحابة لأنكروا حاله، وجهلوا أعماله، ولكن الصوفي قوي
فى دين الله، ولا تأخذه لومة لائم فى الله، شهد الحق حقا فاتبعه مسارعاً، والباطل باطلا فاجتنبه فازعا.
رابعا: الصوفي اتحد بالحق مفارقا للخلق وهو فيهم
الصوفي عمل بكتاب الله مجاهدا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهدا، فسبحت نفسه الطاهرة فى
ملكوت الله، بين صفوف ملائكة الله، فرفعه الله قدراً، لأن الصوفي مجاهد والملائكة غير مجاهدين، ينازع
بالمجاهدة فطرته، والملائكة على الخير مفطورين، قال الله تعالي(النساء 95). لم تقف همة الصوفي على
السياحة فى ملكوت الله الأعلى بل فرت إلى لوامع وميض أنوار قدس العزة والجبروت، فأشرقت عليه أنوار
مشاهد التوحيد العلية، فاتحد بالحق مفارقا للخلق، وهو فى الخلق محفوظ الظاهر والباطن، فألهمه الله تعالى نور
البيان فى فهم القرآن، ومنحه المنة بذوق السنة، فكان أمة وحده جعل الله له نورا منه سبحانه حفظه به من
دواعي الفطر، ولوازم الطبع، ومقتضيات رتبته من مراتب الوجود، وجعله نورا لأهل عصره، يجمل بأعماله
الأشباح، وبعلومه الأرواح، ويجذب القلوب إلى علام الغيوب، ألقي الله عليه محبة منه فأحبه كل شيء، إلا
شياطين الإنس والجن، الذين جعلهم الله قطاعا لطريقه.
الفصل الثاني
مدارس الصوفية لا خلاف بينها فى كل زمان ومكان
الصوفية لا خلاف بينهم فى كل زمان ومكان، وبدايتهم تزكية النفوس ون أدرانها، وتطهير الأجسام من نجاستها
المعنوية، والاتصال بالمرشد الكامل الذي يتلقون عنه العقيدة الحقة، ويشتبهون به فى الأعمال السنية، والاخلاق
المرضية، والمعاملات المقربة إلى الله تعالى، لأن المرشد وارث رشول الله صلى الله عليه وسلم، ورشول الله
صلوات الله عليه وسلم لم يورث درهما ولا ديناراً، ولا أطيانا وعقارا، ولكنه صلى الله عليه وسلم ورث نوراً
وهدي، وحكمة وبيانا قال الله تعالى: (البقرة:151).
فهذه الخيرات هي ميراث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التى ورثها الله بفضله من شاء من عباده.
الفصل الثالث
الصوفية هم أنصار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فى كل زمان ومكان
سترهم الله عن أعين الجهلاء، وأخفاهم عن أهل الظلم والطغيان، ولكنهم هم النجدة عند الشدة، والقوة عند
الضعف، والحصون عند الخوف.
ذلوا، ولانوا، وخشعوا، واختلفوا، وتستروا، ونعم. ولكنهم إذا غضبوا لله غضب الله لهم، وإذا دعاهم الحق لبوه،
رخيصة دماؤهم عليهم حنينا إلى الموت فى سبيله، والقتل فى إعلاء كلمته، متي تحركوا لله لا يسكنوا حتى
يظهر الحق، أو يتصلوا بدار الحق، كم لهم من صولة لله بالله أزالوا بها باطلا تعسر زواله على الجيوش
الجرارة، فهم الأنوار التى تسطع فى حالك الظلمات فتمحوها، وقد أثبت التاريخ ما أظهره الله تعالى بهم، منهم
آل بدر الفقراء من الأنصار الذين خرجوا ليقابلوا تجارا من الشام فقابلوا صناديد العرب وجمراتها، فكان كل
رجل منهم كأنه جيش جرار.
غضبوا لله تعالى غضبة محت الكفر وأهله، وفي كل عصر وزمان قلم فيه أهل الطغيان ليطفئوا نور الله
بأفواههم، أشرقت أنوار الصوفية فمحت الظلمات، هم نشروا تلك الأنوار فى سائر الأقطار، بالقرآن والسنان،
شوقا إلى لقاء ربهم، وحبا فى إعلاء كلمة الحق.
الفصل الرابع
أهل الصفة هم مصدر بث الروح العالية فى كل الحوادث
أقبل جيش الروم عندما قام الصحابة لفتح القسطنطينية، وكانوا رضى الله عنهم قليلين وجيش الروم يناهز ا
لستمائة ألف مقاتل، فهجم رجال من التابعين على قلب الجيش منفردا، فناداه آخر قائلا: ارجع فإن الله يقول:
(البقرة:195)
فصاح سيدنا أبو أيوب الأنصاري- من كبار الصوفية- قائلا: ويحك، لقد نزلت فينا، وأنا أعلم سبب نزولها،
ليست التهلكة الإقدام على هذا الجيش، وإنما التهلكة الإحجام، فإن المؤمن إذا أقبل فاستشهد أحياه الله الحياة
الحقة، وإذا أحجم هلك، ثم كبر رضى الله عليه وسلم وهجم على الجيش كله منفردا، فاخترق صفوفه، وأقبل
المسلمون بعزيمة ماضية وراءه، فهزم الله جيش الروم، وكادت تفتح القسطنطينية، لولا موت أمير المؤمنين
معاوية ورجوع أمير الجيش وقواده لهذا الحادث العظيم، فكان الصوفي فى وقت الغيرة لله، يجعل من معه
مشاهداً فردوس الله، وليس بينه وبينها إلا أن يطعن بسنان، أو يضرب بسيف، فهم رضى الله عنهم زهدوا فى
الدنيا، ورغبوا فى الآخرة، ولكنهم عند المقتضيات يقومون لله، رغبة لإعلاء كلمته سبحانه، وهم الذين إذا
أقدموا لم يحجموا، يعملون ولا يقولون، كثرت أعمالهم وقلت أقوالهم، خافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى،
ولهم جانب مع الله تعالى إذا سألوه استجاب لهم، ولهم أعمال خالصة لذات الله تعالى إذا قاموا بها كان الله معهم
ولهم.
الفصل الخامس
الصوفية حملوا راية الإسلام إلى كل مكان بالمعرفة والسلوك
لم تقم دولة الإسلام إلا وهم مؤسسوها، ولم تقم فتنة من أعداء المسلمين إلا وهم مطفئوها. أول الخلفاء بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم إمامهم، ودام الأمر فيهم إلى سيدنا الحسن السبط عليه الصلاة والسلام ومدتهم عمر
الخلافة، حتى انتقلت إلى الملك العضد، وهم الذين قلبوا دولة بني أمية، وأعادوا الدولة لبني هاشم، وهم الذين
أيدوا دولة آل عثمان، حتى شيدت المساجد فى بودابست، وفي بلونيا، ولم يبق إلا أن تصير أوربا إسلامية كما
كان أولا.
إلا والتفت الصوفية إلى خلوتهم وتجريدهم، عن ما رأوا أنه لا حاجة لهم لقوة سلطان المسلمين، وهم الذين ردوا
الصليبين عن الثغور الإسلامية فى زمان صلاح الدين الأيوبي، عندما غاروا لله غيرة سلبت عقول الإفرنجة،
حتى أصبح الحليم سفيها، ولا غرابة، فإن درويشا لم يبلغ خدمة المرشدين، غار لله هو ودراويش غيرة قهرت
ملك الحبشة، وجيوش الطليان، وجنود فرنسا، والجيش المصري، والإنجليزي، حتى مات منصورا ظافراً،
وجيشه على أبواب مصر، ولكن غادرت المنية، وقام بالأمر غير الدراويش، فاختلفت القلوب وتغيرت.
الفصل السادس
الصوفية أيقظوا الشرق من غفلته لكي ينال حريته
أولاً الصوفية هم القائمون بواجب الوقت.
الصوفية هم المقبلون بكليتهم على الحق، الملتفتون عن جناب الغرور والفناء إلى اليقين الحق والبقاء، وهم
الرجال الذين عرفوا قدر الدنيا والآخرة، وفروا إلى الله تعالى مع حفظ الأدب مع الله تعالى بالوقوف عند
الأسباب التى وضعها الحق مرتبطة بعضها ببعض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمة الدنيا مطية
المؤمن) ( أورده الغزالي فى الإحياء، وقال القاري قلت معناه صحيح، ورواه الديلمي فى الفردوس عن ابن
عمر مرفوعاً، وذكره الصنعناي، والعقيلي وابن لال عن طارق بن أشيم، والحاكم وصححه).
وفيها ينال الإنسان أرقي مراتب السعادة فى الآخرة، وهي مهبط وحي الله، ودار رسل الله، ومحلة العمل لله،
والمسارعة فى محابه ومراضيه سبحانه، قال تعالى: (الإسراء: 72)
علموا مقدار الدنيا، وما ينال فيها من الرضوان الأكبر، والفضل العظيم، وحسن الثناء، فبذلوا النفس والنفائس
فيما لا يحصل إلا فى الدنيا، فهم رجال العمل للخير الحقيقي، قاموا بواجب الوقت ومقتضاه تلبية لداعي الحق
شرعا وقدرا، فهم العاملون وإن ترك الناس والقائمون إذا أهمل الناس، ولكنهم حكماء حلماء، جملهم، الله تعالى
بالأناة والحلم، وحب الاستخارة والمشورة، حتى يطمئن القلب بإخلاص العمل لله، فإذا حركتهم العناية للقيام
بعمل هو خير فى الحقيقة ونفس الأمر أقبلوا بالكلية، محافظين على آداب السنة، وغيرة الله سبحانه، فلهم فى كل
شأن من شئون الدنيا نظر سديد، وبحث بعيون الفكرة والروية، حتى يستنبطوا حكم الله فى هذا الشأن، قال
تعالى: (العنكبوت: 69). وقال الله سبحانه: (البقرة:257).
ثانيا: اتحاد الآراء المختلفة والمذاهب المتباينة.
وقد آن أن يظهر سر تلك الشئون، وتلوح غيوب تلك الحوادث، قال الله تعالى: (آل عمران:26)
ومتي أراد الله شيئا هيأ أسبابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، له سبحانه وتعالى شئون يبديها ولا يبتديها، يرفع
قوما ويخفض آخرين. تنبه الشرق من غفلته، وقام من نومة جهالته بعد الثبات الطويل، فلم يبق قلب إلا وتقلب،
ولا لسان إلا ونطق، ولا جسم إلا وتحرك من غير داع يدعو، ولا آلات وأدوات تشجع، حتى اتحدت الآراء
المختلفة، والمذاهب المتباينة، على غرض واحد، ، فتري البرهمي والبنياني والمسلم فى جنوب آسيا ينادون
بصوت واحد، طلبت لقصد واحد، والرفضي والشيعي والسني فى بلاد الفرس يسارعون إلى مطلب واحد،
والزيدي والسني فى بلاد اليمن يطلبون مطلبا واحد، والمسلم والقبطي فى مصر يتنافسون فى نيل غرض واحد،
بل سرت تلك الروح فجددت نشوة لم تكن منتظرة، وأحيت أشلاء رميمة، فلم يبق سوقة فى حقير المهنة، ولا
عالم فى رفيع الرتبة، ولا بطرك فما دونه، ولا أمير إلا والكل قد جذبتهم تلك العناية الربانية إلى اليقظة لحقوق
لم تكن تخطر على البال، ومطالب لم يتصورها الخيال.
ثالثا: واجب رجال التصوف
والصوفية مقبلون بالكلية على الحق، يرون واجبهم المقدس فى مثل تلك الحوادث الابتهال إلى الله تعالى أن
يحفظ المجتمع من الفتن المضلة، وأن يدفع عن عبيده وعباده نتائج غضبه، من الهرج والمرج، والظلم
والتظالم، حتى دعا واجب الوقت أن يكونوا عمالا لله تعالى قياما بمقتضي الوقت، والوقت يوجب علينا أن
نحرص كل الحرص على العمل لرد ضالتنا المنشودة، حتى نكون كما خلقنا الله تعالى أحراراً، متنعمين بنعمة
الدين والدنيا والآخرة، فإن مسرات النفس بنيل الشرف والمجد فوق مسرات الجسم بنيل الشهوات والملاذ،
ومسرات الروح بنيل رضوان الله الأكبر، والقيام له سبحانه وتعالى بما يحب ويرضي، فوق مسرات النفس
بالمجد والشرف، ولا سبيل إلى نيل خير الروح والنفس والجسم إلا التمتع بالحرية المطلقة، التى يكون بها
الإنسان آمنا على دينه ودنياه وحياته، وإذا عشنا فى تلك الدار الدنيا، لا حرية لنا، ولا رأي، يضيع الحق بيننا،
فلا يمكننا أن نقوم به، تلك الحياة ليست حياة إنسانية، بل هي أشبه بحياة أسفل الأنواع، فإن الله جل جلاله خلق
الإنسان حرا مريدا، وكان قادرا سبحانه أن يقهره بوضع أسباب تحيط به، فكيف يرضي الإنسان لنفسه أن
يكون آلة صماء تحت إنسان نظيره، ولابد لكل صوفي- لا أقول فى بلاد مصر بل فى أقطار الأرض – من أن
يعلن أنه لا يرضي لأي إنسان مهما كانت درجته دينا وعلما أن يري إنسانا نظيره فوقه إلا بالحق، كما يري
الأبناء آباءهم الرحماء، وكما يري التلاميذ معلميهم الأتقياء، وكما نري الأمة ولاة الأمور الأبرار الأخيار،
فيكون الحق جل جلاله هو العلي الكبير، الحكم العدل، وتكون منزلة الإنسان للإنسان بقدر قيامه للحق بالحق،
وقد آن لكل صوفي أن يعلن هذا الإعلان، رغبة فى نيل رضوان الله تعالى، وحبا فى الخير.
ولما كانت تلك المهمة وجداناً روحانيا كان القائم الداعي إليه داعيا إلى الحق، كائنا من كان، وإني أدعو رجال
الصوفية الذين هم أصدق قلوبا، وأخلص نية، وأسرع إقبالا على الحق، أن يتوجهوا إلى الله بقلوبهم، ليغيث
العباد من هذا الفساد، وأن ينبهوا العامة والخاصة إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى، ليكون الله تعالى معنا، بخفي
لطفه، وسريع إغاثته، وعجائب قدرته، فإنه قال سبحانه: (البقرة 189). وأن يرفعوا أصواتهم بعد الحلم والأناة،
والاستخارة والمشورة، حتى ينظر الله تعالى إلى عباده بعين رحمته وحنانه، ويمدهم سبحانه بعطفه وفضله،
وقوته وإحسانه، ويحسن أن يكون لكبار رجال الصوفية، ومشايخ البيوت، وحضرة شيخ المشايخ اجتماعات
يرفعون فيها الأمر إلى الله تعالى، ويكثرون تلاوة الأدعية المأثورة، وينبهون على الدراويش أن يصوموا أياما
لله، ويسهروا ليالي لله، ليتجلي الله سبحانه لعباده بما هو أهله من الكرم والإحسان، والعفو والعافية، والحفظ
والسلامة.
وإني والحمد لله قد شرح الله صدري لأن أكون أول من يدعو إلى هذا الخير، وألبي من دعاني إليه، والله أسأل
أن يجعلنا من عماله المخلصين، ومن الذين يهمهم هم إخوانهم، وخصوصا فى هذه الشؤون العظيمة، والحوادث
الهائلة، حفظنا الله وإخواننا من الفتن، والهرج والمرج، ومكن لنا فى الأرض بالحق، إنه مجيب الدعاء.
الفصل السابع
الصوفية هم رجال الرحمة والقوة
أولا: الصوفية نظروا إلى الدنيا بعين الاحتقار
والصوفية رجال نظروا إلى الدنيا بعين الاحتقار، فلم ينافسوا أهلها، ولكنهم اهتموا بتنبيههم إلى حكمة إيجادهم
فيها، وإلي الواجب عليهم ليكونوا سعداء فى الدنيا والآخرة، وأقبلوا بالكلية على تزكية نفوسهم، وتحصيل العلم
النافع الموصل إلى نيل الخير الحقيقي.
ثانيا: الصوفية أشد الناس تأثرا بالحوادث.
وهم مع استغراق أنفسهم فى نيل هذا الخير المنشود للنفوس الطاهرة أشد الناس تأثرا بالحوادث، لما جملهم الله
له من الرحمة، فهم يعيبون على الإنسان- مهما كان دينه- إذا أخد سيفه وخرج ليلا يسلب مال غيره، وهو إنما
يؤذي فردا واحدا فكيف بهم إذا رأوا مجتمعا سلب الله الرحمة من قلوبهم، فأعدوا آلات الفناء، من مقذوفات
النيران التى تغوص فى البحار، وتطير فى الهواء، وتمر على الأرض مر السحاب لحصد نبات الله على
الأرض، ومحو النوع الإنساني الذي خلقه الله تعالى بيده، وسخر له كل شيء، وإذا رأي الصوفي هذا العمل،
وهو الذي يفر من العمران إلى القفار، خوفا من رؤية ظلمة الفرد للفرد، كيف يكون حاله إذا رأي مجتمعا انفلتت
حقائقه الإنسانية إلى الحقائق الوحشية الشيطانية، والوحوش يأكل اللحم فيأكل الإنسان ليتغذي به، وهذا المجتمع
يمزق أجسام المجتمعات بشواظ النيران، لينال شهوة بهيمية.
ثالثا: الصوفية رجال الرحمة.
الصوفية رجال الرحمة الذين يشفقون على الشجرة أن يقطعوا غصنا منها وهي لا تحس، فإذا رأوا السباع
الكاسرة، والوحوش النافرة عدت على الأطفال والرجال العزل، فأصلتهم نار حامية، ماذا يكون حالهم؟ أيهملون
فى واجبهم حتى يعم غضب الله البر والبحر؟ أم يرون النيران تحصد فى إخوانهم ولا يشعرون بآلامها
فيتعرضوا لغضب الله تعالي؟، لا ولكنهم يقومون لله ورسوله، رحمة بالمظلومين، وبغضا للظالمين، ومسارعة
إلى نيل رضوان رب العالمين، فإذا تحركت تلك القلوب كان معها علام الغيوب.
أي قلب يعلم ظلم الإنجليز للمسلمين فى فلسطين ومساعدهم لليهود، وظلم الإنجليز للهند ومصر وسودانها،
وغيرها من البلاد الإسلامية، وظلم فرنسا لتونس والجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية، وظلم إيطاليا
لطرابلس الغرب وإرتريا والحبشة وغيرها من البلاد الإسلامية، وانتشار ظلم دول أوربا على الشرق وأهله،
أي حيوان حي يدرك تلك الفظائع ولا يرق قلبه؟ ولد الشرق رجالا أيقظتهم الشدائد.
رابعا: واجب الصوفية.
تنبيه اهل الظلم بعاقبة الأمر، وموعظة من أعانهم من المسلمين.
الفصل الثامن
الصوفية هم صفوة الله الذين اجتابهم من الأزل
علمت مبدأ الصوفية وقصودهم، وتحقق أيها الأخ- أمدني الله وإياك بروح منه- أن الصوفية رضى الله عنهم
جعل الله لهم نورا، استبان لهم به حقيقة الدنيا والآخرة، وحقيقة أنفسهم، وحكمة إيجاد الإنسان، وإمداده، وتسخير
الكائنات له فسارعوا إلى ما به نيل ما أعده الله للإنسان فى تلك الدار الدنيا، من بهجة بالعلم، والأنس بالشهود،
والعمل بمحابه ومراضيه سبحانه، وفي الآخرة من جوار أنبيائه الأطهار، وأوليائه الأخيار، وفي مسرات
فردوسه الأعلى، نظروا، وبعيون قلوبهم، إلى أنواع مراتب الوجود، فظهر لهم أن الإنسان وسط ما بين عالم
الملك والملكوت، فهو حيوان ملكوتي، مطالب بشكر النعمة للمنعم، مكلف أن يبحث-بما وهبه الله سبحانه من
العقل والفكر- فى نفسه، وفيما أحاط به، ليلحظ بسره أنوار الآيات فى نفسه وفي الآفاق، ليعبد الله بجسمه
وبروحه.
الصوفية هم صفوة الله تعالى، الذين أجتابهم الله من الأزل فوفقهم وأعانهم، وشرح لمحابه ومراضيه صدورهم،
لأن بدايتهم المجاهدة فى الطلب، فلو أنك ذقت حلاوة سر تلك المجاهدة علمت مقدار عناية الله بهم، لأنهم لأي
شيء يجاهدون؟ ومن يجاهدون؟ وفيمن يجاهدون؟
أهل الصفا فروا من الأكوان للمنعم الوهاب والرحمن
لله قد فروا بصدق عزيمة من عالم الملكوت بل وجنان
لم يلههم كون الفساد لأنهم قد سارعوا للروح والريحان
أنس الرجال بربهم وبحبه فازوا بنيل وصاله الرباني
أهل الصفا شهدوا الجميل بلا خفا هاموا به فى حظوة الرضوان
قد لاح وجه حبيبهم لقلوبهم نالوا الصفا بالفضل والإحسان
أهل الصفا شهدوا الجمال عبانا فقهوا العلوم ورتلوا قرآنا
فروا من الأكوان فى الرضا شهدوا جمال الله لاح بيانا
أولاهمو الرحمن فقه كتابه أعطاهموا الإقبال والإيمانا
لم يلههم كون الفساد لأنهم نالوا رضاء الله منه حنانا